إننا نتمنى وضع مفهوم أولي لقيام – وزوال – الحضارة – أي حضارة – حيث إن لكل حضارة من حضارات الإنسانية مذاقاً خاصاً وإلا لما تميزت من سواها ، ولابد أن تكون تلك الخاصة المميزة للحضارة المعينة هي التي عملتْ على نشأة تلك الحضارة وظهورها ، وذلك عندما كانت تلك الخاصة المميزة في عنفوانها وقوتها ، ثم لابد – كذلك – أن تكون تلك الخاصة المميزة نفسها عندما أصابها ضعف – وفساد – هي علة اندثار الحضارة التي تميزت بها .
ونريد أن يكون معلوماً أنه إذا قلنا إن الحضارة العربية / الإسلامية قد تأسست – وتتأسس – على الأخلاق ، فإن هذا القول لا يعني – أبداً – نفياً لقيم العلم أو الفن أو العسكرية ، فكل ما هنالك أن الحضارة العربية / الإسلامية اجتمعت لها العلوم والفنون ، لكن أهم ما كان بارزاً فيها هو الجانب الأخلاقي ، فالحوادث الأخرى – المؤهِّلة لقيام الحضارة – قد تجتمع في كل حضارة ولكن بمقادير تتفاوت هنا أو هناك ، فنحن إذ نميز الحضارةالمعينة بخاصة ما ، فإنما نريد أن تكون تلك الخاصة – أكثر من سواها – ركيزة أولى يقام عليها البناء ، وبناء الحضارة الإسلامية ركيزته الأخلاق .
ونحاول – الآن – أن نعرض بعضاً من الدلالات الأخلاقية في سورة كريمة من سور المصحف الشريف … وهي سورة " الفجر " وذلك من خلال مفهومنا للقيم الأخلاقية لمّا تتأسس على المصدرالديني .
وقبل أن يدخلنا البيان القرآني الكريم – من خلال ذلك المفهوم – إلى عالم الأخلاق ليوقظ فينا همة الواجب ، وما الواجب إلا نداء العقل ، نقول إنه قبل الدخول إلى عالم الأخلاق هذا يجدر بنا أن ننظر إلى تقديم القرآن الكريم الكلام في سورة " الفجر " بسياق استفهامي تنبيهي … وهو : هل في ذلك قَسمٌ لذي حجر ؟ ثم … ألم تر كيف فعل ربك بعاد ، إرم ذات العماد ، التي لم يخلق مثلها في البلاد ، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ، وفرعون ذي الأوتاد ؟ .
ولعله من بلاغة النسق القرآني أنه في كلمات قليلة العدد يقدم لنا تصوره / مفهومه للحضارة – وهو مفهوم قائم أساساً على مفاهيم أخلاقية – ذلك حين يقدم لنا ثلاث حضارات سبقت الإسلام . وواضح من النص القرآني أن هذه الحضارات الثلاثة قد كانت دعائمها مؤسسةعلى مفاهيم ، وتصورات ، فنية وجمالية : فحضارة " عاد " برعت في بناء المدن ، فأقامت مدينة " إرم " بشكل قد لا يتصوره خيال ، فهذه المدينة أقيمت من قصور عالية لها طوايق متعددة ، وكانت هذه الطوابق العالية تقام على " عمد " ، هذه العمد / الأعمدة تقام – بدورها – على أسطح الطوابق السفلى ، ما يبدو للناظر من بعيد وكأنها غابة كثيفة من جذوع صخرية قوية .
و " ثمود " عاشت في وادٍ صخري قد لا تجد فيه دافعاً لبقاء – فنماء – حيوان أو نبات ، وكانت معجزة هذه الحضارة – حضارة ثمود – النحت في هذه الصخور ليقيموا بيوتهم وقصورهم .
و " فرعون " وحضارة الفراعنة قد كانت في المهارةالمعمارية كما تبدّى ذلك كله في المسلاّت والتماثيل والمعابد .
وإذا أوضحنا أن هذه الحضارات قد قامت على أسس فنية جمالية ، إلا أنها لم تقرنها بأخلاق النبل والتعاطف والرحمة بين الإنسان والإنسان !!! ، ولهذا جاء في القرآن الكريم " الذين طغوا في البلاد ، فأكثروا فيها الفساد ، فصب عليهم ربك سوط عذاب ، إن ربك لبالمرصاد . ولعل سبب انهيار هذه الحضارات أن أهلها لم يكونوا يكرمون اليتيم ، ولايطعمون المسكين .
وبإمكاننا أن نتبين ميزة الحضارة العربية / الإسلامية : فهي حضارة " أخلاق " بالدرجة الأولى ، ثم هي حضارة علم وفن بالدرجة الثانية ، ومن ثم تقوم الحضارةالعربية / الإسلامية على مقوم أساس هو بناء الضمائر في النفوس قبل أن تعنى ، أوتهتم ، ببناء مدينة في فخامة إرم ، أو تبدي براعة في تشكيل الصخر العصي بيوتاً وتماثيل ، أو ترفع البناء أوتاداً للهياكل والمعابد ؛ فبالضمائر الحية التي ترسم لأصحابها كيف يكون التعامل الودود بين الناس …تطمئن النفوس .
ولهذا فإن السورة الكريمة – الفجر – تنهي صورتها التي قدمتها لأهل البصر – والبصيرة – بالقول القرآني " يا أيتها النفس المطمئنة ، ارجعي إلى ربك راضية مرضية ، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي "، ذلك لأن النفس التي رفعت – في دنياها – جوانب الأخلاق وقيمها جنباً إلى جنب مع جوانب العلم والعمل ، صح لها أن تكون نفساً مطمئنةً .
ومن التفسير السابق يتضح لنا جواز أن تضيف الحضارة الإسلامية إلى نفسها فناً وعلماً ، وما شاءت أن تضيف ، لكنها إذا لم تميز نفسها بركيزة الأخلاق ، فربما بقيت " حضارة " لكنها لن تكون – أبداً – إسلامية .
أخوك فلسطيني من غزة