أدبنا العربي والتغريب :
من مظاهر التغريب في الأدب العربي :
1- بدء رحلة العودة بمعنى الأدب إلى ما كان عليه في العصر اليوناني القديم ، وفي هذا العصر تم حذف أي ارتباط للأدب بالقيم والأخلاق . وقد استند أصحاب هذه الدعوة إلى المذهب الأدبي المنسوب لأرسطو ، والذي أفصح عنه في كتابه " الشعر " ( =poetics ) ، وفيه … : " إن جمال الأدب لا يستند إلى الأخلاقية ، وإنما هو معنى منعزل لا شأن له بأية قيمة خارجية " ما يعني أن يكون الأدب " جميلاً كل الجمال " حتى وهو غير أخلاقي ، حيث لا دخل لا للمبادئ ولا للمثل في الأدب" … فعن أوسكار وايلد ، وهو يشرح هذا المقصد … : " ليس هناك كتاب أخلاقي ، وكتاب منافٍ للأخلاق ، إنما الكتب إما جيدة الصياغة ، وإمّا رديئة الصياغة ، هذا كل ما في الأمر " ما يعني أن هذا المذهب يعزل " الأدب " عن " الدين " وما يبثه من قيم ومبادئ وأخلاق … وربما عن كل عناصر الحياة الإنسانية من حيث هي " أصيلة " و " نقية " ، وذلك تحت دعاوَى من قبيل الدعوة إلى " المتعة الفنية الخالصة " .
ومن أسف أن بعضاً من " مفكرينا " العرب ، والمسلمين ، دافعَ عن هذه النظرية ، ما أهّلَ لأن يصبحَ الأدبُ ، ونتيجةً لذلك الطرح المريب ، فناً من الفنون التي تهدف إلى التعبير عن الجمال والفن دون أي التزام تجاه النفس أو القيم أو المجتمع … حتى قرأنا عن : " الفن للفن " و : " الشعر للشعر " ، بل وذاع بيننا مقولة توفيق الحكيم عن " حرية الأديب " … : " هي نبع الفن ، وبغير الحرية لا يكون أدب ولا فن" .
2- إضافة فن القصة والرواية إلى فنون الأدب العربي ، إذ إن العرب لم يجدوا فيما مضى في " القصة وسيلة للتعبير عن مشاعرهم ، أو تصوير وجدانهم ، وقد تحقق لهم ذلك بأوفى نصيب عن طريق النثر والشعر ، ولذلك فإن القصة كانت ، وما تزال ، دخيلةً على الأدب العربي " ما يعني أن " القصة قد " وردت إلى الأدب العربي من الغرب " عن طريق هؤلاء الذين سافروا إلى أوروبا وكانوا على اتصال وثيق بالحضارة الغربية ، حيث ولّدت قراءاتهم ، وترجماتهم ، واقتباساتهم من الأدب الأمريكي والأوروبي ، تجريباً لأشكال جديدة في أواخر القرن التاسع عشر ، وقد ظهرت الأعمال الأدبية المبتكرة ، والمعربة ، جنباً إلى جنب في الصحافة العربية وعلى أرفف المكتبات .
3- الدعوة إلى وَحدة ما أطلق عليه " الأدب العالمي" الذي يتخطى الحدود ويعبّر عن نفسية الشعوب أجمعين بمعزل عن أي ظروف ، أو خصوصية شخصية ، لهذا لا يجيز المدافعون عن هذا الأدب لأي شعب من الشعوب أن يرفضه ، أو يناقشه ، بل يقبله كما هو ، وحال لا يفعل فهو منعوت بأنه " جامد " أو " رجعي " أو " جاهل " .
والحاصل أن العديد من الناس ، مثقفين وأدباء وعامة ، راحوا يلهثون وراء هذا الادعاء ، فكانت الروايات العالمية تُترجَم بكل ما فيها من مفاهيم ، ومصطلحات غربية ، وفكر مادي وإباحي ، إلى كل اللغات بما فيها اللغة العربية ، وتوحّدت ، من ثم ، هموم ، ومشكلات ، العالم أجمع ، ما مهّد لأن تتحول قضايا العرب ، والمسلمين ، من قضايا " وطنية " / " قومية " إلى قضايا تعد هامشية بالقياس لسابقتها .
يُتْبع …
والسؤال الذي يطرح نفسه … هو : لماذا كان " تركيز " حركة الترجمة من " الأدب " العربي إلى اللغات غير العربية على " أدب المرأة " / " الأدب النسائي " ، حتى بات معروفاً أن ما يفوق نسبة الـ 80% مما ترجم من الأدب العربي هو " أدب نسائي " ؟ .
لهذا الإجراء أسباب … منها :
– أن الرواية النسائية العربية صارت تؤسس لما " يريده " القارئ ، ومن ثم الناقد ، في بلاد الغرب من " صور " و " أنماط " معيشية ذات تعلق بالمستوى الاجتماعي والثقافي للعرب بوجهٍ عام ، والمرأة العربية بوجهٍ خاص . ٍ
– أن كثيراتٍ من كاتبات الـ رواية صرن يكتبن وعْيونهن لا على الإشكالية / العقدة الأدبية داخل الرواية ، بل على ما يجعل الرواية مؤهلةً لأن تُترجَم ، حتى قرأنا عن نوع جديد من الرواية بأقلام بعضهن … هو " الروايات التي تُكتب لتترجم" !!! !!! !!! .
ونذكر هنا ، كدليل على زعمنا هذا ، أن " أديبة " هي بنظر " الغرب " " مناضلة " لأجل " حقوق المرأة " أقدمتْ ، لتؤهل أحدَ كُتبها للترجمة ، على استبدال بما كان في هذا الكتاب من مقارنة بين "المرأة العربية " ونظيرتها " الغربية " ، وخلُصتْ إلى أن " المرأة الغربية " مضطهَدةٌ كالمرأة العربية إنْ لم يكن أكثر !!! ، استبدلت " الأديبة " بهذا المقطع مقطعاً آخر هو من " المشهيّات " عند الناقد الغربي المتصيد ، وكان هذا المقطع ذا تعلق بمسألة ختان الفتاة في الشرق العربي / الإسلامي ، وبقيت " الطبعة العربية " وبها قضية المقارنة ، وسافرت " الطبعة الغربية " ومن فصولها فصلٌ عن " الختان " وكيف أنه " همجية " و " اعتداء على جسد الفتاة " وما إلى ذلك من مصطلحات هي أقرب ما تكون إلى الصرخات مما يرضي القارئ ، والناقد ، الغربي !!! !!! !!! .
يُتْبع …
2- : التغريب واللغة العربية :
ما نراه ، أن " الهجمة على اللغة العربية ليست " بنت اليوم " ( = ليست هجمةً حديثةً ) حيث الثابت تاريخياً أن هكذا " هجمة " على " مسمار الهوية " ( = اللغة ) إنما هو قديمٌ قِدمَ الاستعمارِ الغربيِّ لبلادنا العربية والإسلامية في آن ؛ فقد نجح هذا الاستعمار في إيجاد ، أو قُل زرْع ، أعوان له من الـ مستغرِبين من بني جلدتنا الذين يتَسَمَّوْن بأسمائنا ، وينتحلون ، ربما ، عقيدتَنا ، كذلك من بعض النصارى الذين دعوْا إلى " معالجة " اللغة العربية ، وما هذه " معالجة " بقدر ما هي دعوى مبطّنة لـ " القضاء " على اللغة العربية كما قُضي ، من قبلُ ، على اللغةاللاتينية … : " إن اللغةَ العربية ناسبتْ حقبةً من الزمان قد مضتْ ومضت معها ظروفُها وملابساتُها ، فهي كانت لغةً صالحةً لتلك الحقبة الزمنية الغابرة ، وأما اليوم ، فلا تصلح اللغة العربية الفصحى لغةً معبرةً عن واقعنا الحضاري المعاصر ، ولا تستقيم مع متطلبات ، وظروف ، البيئة الحديثة ، فينبغي التخلّي عنها والتحوّل إلى لغةٍ جديدةٍ ملائمةٍ لأجواء الحضارة الحديثة . إن اللغةَ الفصحى عاملٌ من عوامل تخلف العالم العربي عن ركب الحضارة الحديثة ، وهي رمزٌ للجمود والتقهقر " .
هذا وقد كانت حربُ الأعداء ، والأصدقاء ، على اللغة العربية حرباً متعددةَ الجبهات … ومن بين هذه الجبهات :
أ- جبهة تعمل على استبدال اللغات الأجنبية باللغة العربية في المدارس والجامعات . وقد كان راعي هذه الجبهة كلٌّ من المستعمرَيْن الإنجليزي والفرنسي ، وقد سعيا ، منذ لحظة الاستعمار الأولى ، إلى فرض هذا الأمر على الحكومات العربية والإسلامية ، وكان لهم في تحقيق هكذا طلب ثلاث وسائل :
– الأولى : تمثلت في جعل اللغة الأجنبية ، بشكل إلزامي ، لغةً رسميةً . وحصل هذا في مصر بصدر قرار وزاري في العام 1889 م ينص على أن تكون لغة التعليم في المدارس المصرية هي اللغة الإنجليزية .
– الثانية : تمثلت في إنشاء مدارس الإرساليات المجانية والجامعات الأجنبية ، مع ملاحظات :
• أن هذه المدارس ، والجامعات ، قاربتْ أن تكون قمةً في الشكل الملازم لها ولمنتسبيها ، كذا في القيمة " المادية " المبذولة للقائم على التعليم من معلمين ومعلمات في هذه المؤسسات .
• أن هكذا إجراء تزامن مع " تعمد " إساءة الشكل الملازم للمدارس " الحكومية " ومنتسبيها ، كذا القيمة " المادية " المبذولة للقائم على التعليم .
• إطلاق حملة " استهزاء " بمعلمي اللغة العربية عبر وسائل الإعلام التي سادت وقتها كـ الأفلام التي راحت تُظهر معلمَ اللغة العربية تحديداً / " الخوجة " بمظهر منفّر شكلاً وموضوعاً ، فكراً وسلوكاً .
– الثالثة : تمثّلت في إرسال البعثات التعليمية إلى البلاد الاستعارية إنجلترا وفرنسا .
ب- جبهة تدعو إلى استبدال اللغة العامية الخاصة بكل بلد باللغة العربية الفصحى . وهذه الدعوة بدأت مع الاستعمار الإنجليزي في مصر ، وقد دعا إلى ذلك الدكتور الألماني " فلهلم سبيتا " ، وكان يشغل منصب مدير دار الكتب المصرية حتى العام 1880م ، ثم تبعه السير " والف ويلمبور " في العام 1902م ، وكان ألّف كتاباً بعنوان " لغة القاهرة " دعا فيه إلى إحلال العامية ، صراحةً ، محل الفصحى ، وجعلِها لغة للعلوم والآداب ، ولم يكتفِ الرجل بتدخله في " شأن داخلي " !!! بل زاد ، فدعا إلى كتابة العامية بحروف لاتينية .
هذا في مصر ، أما في لبنان ، كذا في دول المغرب العربي ، فقد انطلقتْ هذه الدعوة من " مرجعيات فرنسية " ذات أهداف سياسية تتوارى خلف كذا دعاوى ثقافية ، وكان من أبرز هؤلاء الدعاة سعيد عقل الذي قيل بحقه إنه " حامل لواء العامية محل الفصحى " ، رغم أن المعروف عن الرجل أنه من " أكثر شعراء العربية فصاحة " .
وتفعيلاً لهكذا " مخطط " ، فقد أقدم عدد لا بأس به من " الأدباء " بالكتابة بالعامية بزعم " صعوبة اللغة العربية " التي " تستعصي على فهم الكثيرين " … : " لقد أسرفت في استخدام العامية ، وهذا يدل على اتجاهي في استخدام اللغة الذي كان جديداً بدوره ، فقد كتبتُ بلُغةٍ بريئةٍ من كل المحسنات اللفظية ، سهلة بالقدر الذي يساعدها على توصيل المعنى المطلوب . وأعتقد أن لغة " الباب المفتوح " كانت في ذلك الوقت ، أوائل الستينيات ، لغة جديدة في حقل الرواية " .
ج- جبهة تستخدم " الكتابة الأجنبية " في التعبير عن قضايا ، وهموم ، المجتمع العربي . ويكثر هذا النوع من الكتابات عند الأدباء المغاربة نظراً لكونهم تعرضوا ، أكثر من غيرهم ، للتغريب اللغوي ، حتى قرأنا لإحداهن أنها غير قادرة على التعبير عما تريد باللغة العربية بدلَ الفرنسية التي " تتقنُها " .
ونفس الأمر ، تقريباً ، قام عند مواطنةِ صاحبةِ هذا القول ، وذلك في روايةٍ لها قُدّرت ، ولاقتْ ترحيباً أسطورياً حتى مُنحَتْ جائزة باسم نجيب محفوظ .
د- جبهة نسائية تدعو إلى " تأنيث اللغة " وتخليصها من " طابعها الذكوري " . ويعلن أعضاء ، أو عضوات ، هذه الجبهة أن " الذكورية " ظلت مرافقةً للغة العربية طوال العهود والقرون السابقة . وواضح مدى التأثير الغربي في هكذا دعوة تاريخها يعود إلى الكاتبة الإنجليزية ديل سبِندر ( Dale Spender ) التي أعلنت : " أن الرجل هو صانع اللغة ، فطوَّرها تحت سيطرته ، وفي الاتجاهات التي يريد " .
هذا الطرح مهّد لأن نقرأ كتباً تحمل عناوين تزعم أنها تدعو لـ عدم " حنسوية " اللغة ، وقد لاقت مثل هذه " العناوين " إعجاباً في بعض الدوائر الأدبية باعتبار الأمر " خطوة جريئة " في هذا المجال ، لأنها خطوة باتجاه " تخليص اللغة العربية من صفاتها الذكورية الطاغية " بل اعتبره البعض " مشروعاً " يهدف إلى تأسيس لغة " غير جنسية " … لغة " غير منحازة للرجل " .
واستدل أصحاب ، أو صاحبات ، هذا الاتجاه ببعض الألفاظ التي هي ، بزعمهن ، تحقّر من قدر " المرأة " ، لأنها ألفاظ أوجدَها " الذكَر " … كـ : " عجوز شمطاء " ، وعلينا استبدال " سيّدة مُسنة " ، أو " سيدة شيخة " بهذه اللفظة حال الإشارة إلى المرأة المتقدمة في السن !!! ، كذلك طالب عضوات هذا الاتجاه بإضافة " تاء التأنيث " إلى ما أسمينه " الألفاظ الذكورية " حال نستخدمها مع المرأة … كـ : " نائبة " في البرلمان بدلاً من " نائب " في البرلمان ، و " أمينة عامة " للوزارة بدلاً من " أمين عام " للوزارة .
يُتْبع …
2- التغريب و " كتابة المرأة " :
بدأت " المرأة العربية " الكتابةَ مع بداية عصر النهضة ومع ظهور عشرات المجلات ذات الصبغة العائلية الاجتماعية التي قام بتأسيسها بعض النساء . وقد تناولت هذه الكتابات قضايا أكثر علاقةً بما يهم المرأة … مثل : حق المرأة في التعليم والعمل والمشاركة السياسية ، وقضايا " إدارة " المنزل وتنشئة الأطفال وعلاقات الزواج .
ويمكن حصر المكتوب في هذه الكتابات في : الدوريات والمقالات والدراسات ذات الطابع الاجتماعي أو الخيري ، كذلك كان هناك بعض الروايات والأشعار ذات الصبغة التعليمية .
وفي العام 1892م ، أسست اللبنانية هند نوفل مجلة الفتاة ، والتي ظلت توزع مدةَ عامين حتى العام 1894م ، وقد عملت صاحبةُ هذه المجلة على ألا يكون للمجلة أيةُ كتابة في الشؤون السياسية أو الدينية ، وأعلنت أن حقل عملها هو ، وفقط ، " الدفاع عن المرأة " . وكان من ضمن " الدفاع " هذا نشر ما تكتبه المرأة قصةً وشعراً ، فنشرت أول رواية قامت على ترجمتها امرأة .
وممن كن لهن جهود في ذلك الوقت : أليس بطرس البستاني ، وزينب فواز ، ولبيبـة هاشم ، وعائشة التيمورية ، ومَلَك حفني ناصف ، ومي زيادة .
وهذا الأمر أبان أن " أول رواية عربية " ليست ، كما هو معروف ، رواية " زينب " لمحمد حسين هيكل ، وقد صدرت العام 1941م ، بل رواية " حُسن العواقب " لزينب فواز ، وقد صدرت العام 1899م !!! .
ويكتب النقاد عن هذه الرواية ما نصه : " رواية " حُسن العواقب " تشتمل ، ليس فقط ، على عنصر القص الذي كان متوافراً في الكثير من الأعمال التي لم تستحق صفة الرواية ، بل احتوت ، أيضاً ، على عناصر فنية روائية متقنة من خلق شخصيات الى خلق حبْكة وعنصر تشويق ومعالجة فنية للحدث الروائي ".
ويؤكد بعض النقاد أمر سبْق " حُسن العواقب " لـ " زينب " تأسيساً على أن كاتبتها " لبنانية " ، وقد كانت الكاتبات اللبنانيات الـ " أبكر حضوراً من شقيقاتهن العربيات إلى حقول الإبداع الأدبي والصحافة ، وأنهن صاحبات الإرهاصات الروائية والقصصية والمسرحية والشعرية الصحافية الأولى منذ مستهل العقد الأخير في القرن التاسع عشر الميلادي " . وهذا الرأي يؤخّر ريادة " زينب فواز " لفن القصة ، ويحل محلها أليس بطرس البستاني التي " أصدرت الرواية الاجتماعية النسائية الأولى سنة 1891م بعنوان "صائبة " ، والتي تتمحور حبكتُها حول حق المرأة في اختيار الزوج خارج إطار العرف " .
نخلص من ذلك ، وبعيداً عن الخلافات حول من كان " الأول " في كتابة الرواية العربية ، إلى أن " الأدب اللبناني " هو من وضَعَ " حجر الأساس " في بناء التغريب في عالم الرواية العربية ، وذلك بدوره فسح المجال لتغريب العقلية النسائية العربية ، إذ تم استنباط القيم والمبادئ الغربية ، حيث الأدب اللبناني مطبوع بـ طابع الرسولية الاجتماعية ، وهذه ذات منهج يشدد على الأخذ من القيم الغربية وفرضها ، ولو قهراً ، على الواقع العربي ، وهو في مجمله إسلامي ، فصارت الإشكالية الثقافية أن صار " أدب النهضة " مفتقراً إلى الحوار ، ومن ثم التجديد ، من الداخل ، بل صار الأمر مفروضاً عليه من الخارج حيث قام الإملاء ، والفرض ، من الخارج عبر تسييد قيم الغرب الاجتماعية والثقافية .
والملاحَظ أن إشكالية " التدخّل " هذه ما اقتصرت على فترة " عصر النهضة " ، بل هي طابع مميز للرواية العربية عامة ، والنسائية خاصة ، حتى في الكتابة الأدبية المعاصرة لا تخطيء العين الناقدة هكذا تدخل ، وإن اختلف " قدْره " ، كماً أو كيفاً ، بحسب " الظرف السياسي " . وهنا نقسّم مراحل تفاعل أدب المرأة اجتماعياً وسياسياً إلى ثلاث مراحل :
يُتْبع …
|
(5):
• المرحلة الأولى ( 1850 : 1955)م :
وهي مرحلة كان طابَعها العام هو التفاعل بين " نهضة المرأة " و " نهضة الأمة " ، وفي هذه المرحلة ظهرت " الصحافة النسائية " مع ظهور كتابة قاسم أمين ( 1863م : 1900م ) في شؤون المرأة وتكرست على يد قاسم أمين ، الذي يراه البعض " رائد النسوية العربية " من حيث هو " من مهَّد الأرض ، نظرياً ، لظهور الرواية العربية " ودليل أصحاب هذا الحكم أن قاسماً ، بكتابيه " تحرير المرأة 1899م " و " المرأة الجديدة 1900م " قد كرّس حقّ المرأة في الوجود الأدبي ليمتد الأمر وتكون المطالبة بحق المرأة في مساواة الرجل ، كما أن الرجل بكتابيه هذين قد فتح الباب أمام ترشيح المرأة لأن تكون " بطلة " بالمعنى الروائي للكلمة .
كانت " فترة الأربعينيات " ربيعَ كتابة المرأة من حيث إنها كانت فترة مليئة بالصراعات ، والطموحات ، السياسية والاجتماعية والثقافية ، ما مهّد لتصعيد " العمل الوطني " ليأخذ ، إلى جانبِ البُعد السياسي ، البعدَ الاجتماعي ، وهذا كله مهّد لتقبل فكرة " هدم المجتمع الملكي " على المستوى السياسي ، والمجتمع الرأسمالي على المستوى الاقتصادي … حتى انتهت " الأوضاع " بـ أحداث يوليو العام 1952م .
طغى على فترة الأربعينيات هذه التأثرُ بالفكر الماركسي ، وهو فكر شيوعي / إلحادي ، وقد سعى لنشره مجموعةٌ من الأدباء العرب الذين أخذوا هذا الفكر حتى من داخل الجامعات " الوطنية " وقتها !!! ، وقد نجح هؤلاء في نسبة " كل " مشكلات المجتمع إلى " الدين " بشكل عام ، وإلى " الإسلام " بشكل خاص ، ما أشاع بين العوام ، تحديداً ، فكرةَ ، أو تصورَ ، أن الدين هو " العائق في وجه تحرير المجتمعات بشكل عام والمرأة بشكل خاص " … : " دخلتُ الجامعة وأنا وطنية متحمسة ، وكان أمامي في الجامعة خياران مفتوحان لمن يريد أن يعارض الحكومة ويسعى إلى بديل أفضل ، كان هناك الإخوان المسلمون والشيوعيون في وقت بدأ فيه الوفد يتراجع عن خطه الثوري ، وكان من الطبيعي أن أختار الشيوعيين ، خاصة وأنا المرأة ذات المزاج الخاص ، تهزني ، وتثير خيالي ، قيم المساواة بين البشر رجالاً ونساء ، وبين البشر جميعاً بصرف النظر عن اللون والجنس والعقيدة ، وهذا المستقبل الذي تصوره الماركسية للإنسان وقد انطلق بكل طاقاته ليعيد بناء العالم كما يريد " .
وقد كتبت صاحبة النص نفسُها روايةً تبين ، بحسب رؤيتها الماركسية ، كيف أن القهر والقمع ، وقد أصاب الرجلَ في السلطة والدين والتراث ، قد دفعه إلى أن يمارِس اضطهادَه ، وقمعَه ، للمرأة . ودخل أحد " أدبائنا " على الخط مادحاً صاحبة النص والروايةِ : " لهذا كانت ( … ) في طليعة مناضلي النساء والحركة الوطنية والديمقراطية ، وقد ناضلت من أجل تحرير الرجل والمرأة من قهر السلطة ، ولكي يستردان معاً حريتهما وإنسانيتهما ويمارسان الحضور الفعّال في تأسيس المجتمع المدني ، ومجتمع الحوار والنسبية ورفض المطلق والجاهز من الأحكام والقيم السلفية " .
• المرحلة الثانية (1956-1974) م."
غلب على " خطاب المرأة " في هذه المرحلة تناول التحولات التي قد كانت سواء في المجال السياسي ، أو الاجتماعي ، أو الاقتصادي ، وسواء كان الأمر ذا تعلق بالداخل أو كان متعلقاً بالخارج ، حيث عمّ كثيراً من بلدان العالم العربي والإسلامي ارتباط الحكم بنظم " سلطوية " تعتمد على " الحزب الواحد " المسيطر ، ما مهّد لسيادة ، وهيمنة ، البيروقراطيات التي هي " مجموع الهيئات ، والأشخاص ، الذين يتولون الوظيفة التنفيذية في الدولة " وهذا سيؤدي إلى " تضخم " تلك الهيئات ، ما يعني ازدياد نفوذها على حساب الهيئات النيابية المعبرة عن الإرادة الشعبية .
دخل ، في هذا المرحلة ، كثير من الحكومات ، والأحزاب ، تحت قيادة " العسكريين " ، كذلك سادت شعارات داخلية أساسها " الاشتراكية " و " مناهضة الاستعمار " و " تحدّي الغرب " .
وعلى الصعيد الأدبي ، فقد ظهر مدى تأثر " أدب المرأة " بالحركات النسوية الغربية ، وهي حركات " وجدت في الإباحية سبيلاً لإثبات حريتها واستقلالها " وهذا ألقى بظلاله على المشهد الأدبي النسائي خاصة حال نعلم مقولة ابن خلدون " إن المغلوب مغرم بتقليد الغالب " ، فوجدت " طفرة " هائلة في الإنتاج الأدبي النسائي العربي ، وأصبح هذا " الأدب " يعبر عن المرأة العربية في وضوح وجرأة عارضاً مشاعرها وقضاياها ورؤاها للمجتمع والحياة بشكل غير مسبوق لا من ناحية الكم ، ولا من ناحية الكيف ، وصار مألوفاً أن تعالج كاتبةٌ " القيود المفروضة على المرأة من الناحية الجنسية " ، وذلك في كتابات لها مثل : " المرأة والجنس " الذي صدر العام 1972م و " تعلمت الحب " الذي صدر العام1959م ، كما عالجت كاتبةٌ أخرى صورة " المرأة التقليدية " في كتابات لها مثل : " أنا أحيا " الذي صدر العام 1958م .
• المرحلة الثالثة (1975 م: 1999م ) :
تأثرت هذه المرحلة بما يُعرف على الصعيد الثقافي والسياسي بـ العولمة ، خاصة أن هذا الأمر أصبح " تحت رعاية الأمم المتحدة " فكان أن تم تأدية " دورٍ متعاظمٍ في رسم ملامح خطاب المرأة في ربع القرن الأخير" .
كانت السمة الغالبة على " خطاب المرأة " في هذه المرحلة ، ونتيجةً لعوامل سياسية دولية مثل : تغيّر العالم ، وسقوط الاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية برمتها ، وثورة الاتصالات ـ والعولمة ، والصراعات العرقية والدينية والقومية ، وانهيار النظم الشمولية ، وظهور التعددية ، هي " فقدان المرأة إحساس الانتماء إلى أية قضية " فكان تسيّدُ شعار اللامبالاة لأي صراع سياسياً كان أو اجتماعياً ، فتقوقعت كتابات المرأة ، ودار الإنتاج الأدبي النسوي حول الذات وهمومها الآنية ، ما أظهر تضخماً لـ " أنا " المرأة " على حساب العلاقة مع " الآخر " الذي كثر وصفه بأنه " الجحيم " و " القيد " … فقرأنا عن " خصوصية المرأة " و " لغة الجسد لدى الأنثى " و " رهافة المشاعر الأنثوية " و " خطاب العواطف والغرائز التي هي نبع الحياة والخصوبة والتجدد والاستمرارية الخلاقة " إلى غير ذلك من موضوعات ، وتعبيرات ، صارت العناوين الأساس لـ " الكتابة الأنثوية " … مثل : "حين كنت رجلاً " وحبكتها تدور حول امرأةٍ رفضت الخضوع لمجموعة من التقاليد التي تكبلها ، كامرأة ، وتأسِرُها ضمن إطار ضيق بحيث تتحول إلى " كائن من الدرجة الثانية " أمام الرجل و " سطوته " و " قوانينه " ، فكان أن قررت أن تتخذ مواقفَ جريئةً في حياتها على صعيد العمل والأسرة والمجتمع كاد أن يتم فيها تغليب " الذكَر " على " الأنثى " داخل هذه المرأة ، حتى رأها البعض ذكَراً ، أو كـ الذكر . ومثل : " أنا هي أنتَ " وحبكتُها تدور حول " المثلية النسوية " ، وبلغ الأمر حداً أن مدحها الناشر بقوله : " لم يوجد ، حتى الآن ، امرأةٌ عربية بحثتْ موضوع العلاقات المِثلية عند النساء بشكل مباشر . أحياناً كانت تجري معالجة الموضوع بين الذكور ، أما بالنسبة إلى الإناث ، فبقي الأمر محظوراً على الدوام ، لأن المرأة الشرقية تعيش في فضاء من المحرمات والممنوعات . هذه الرواية تتصدّى لموضوع العلاقات المثلية كواحد من الحقائق التي لم يعد ينبغي السكوت عنها " .
يُتْبع …
2- التغريب و " الأدب النسائي " :
تطورتْ / تغيّرتْ ، تقليداً للغرب ، نظرةُ " المرأة " إلى كل من " أدبها " و " كتابتها " : فبعد أن كان هناك " تعاونٌ " بين المرأة والرجل في حقل " الدفاع " عن المرأة باعتبار أن " تحرر " المرأة أمرٌ ذو فائدة اجتماعية للاثنين : الرجل والمرأة من حيث إن " المنتوج " الأخير لهكذا " تحرر " هو تنمية المجتمع الذي يعيش فيه كل من الرجل والمرأة . بينما " كان " الأمر هكذا ، حدث ، ونتيجة لتأثر " الأديبة العربية بالحركات النسوية الغربية " ، أن رفضت هذه " الأديبة " وجود أي تعاون بينها وبين الرجل ، وارتفعت الدعوات لإيجاد أدب خاص بالمرأة يتخذ من " خصوصية " قضاياها ، ومعاناتها ، هدفاً من أجل " إثبات تميزها الإبداعي عن الرجل " .
ونشير إلى أن الدعوة إلى تأسيس " أدب نسائي " سبقتْها دعوةٌ إلى تأسيس " نقد نسائي " على غرار ما قامت به المرأة الغربية في أمريكا وكندا وفرنسا تحديداً … : " إن الدافع وراء ظهور هذا النوع من النقد النسائي هو الإهمال العام لإبداع المرأة على اختلاف مشاربه ، بل اعتباره أدباً غير متميز " ، وقد بررت الداعيات إلى تأسيس " النقد النسائي " الأمر بأنه جاء لـ : " يرفع من منزلة المرأة الكاتبة في المجتمع " واستدلت الداعيات بجهود رجال أقروا حق المرأة في هكذا دعوة كـ رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين والطاهر حداد .
بهذه " الرؤية " لم تعد " مهمة " هذا النقد ، فقط ، إعادةَ الاعتبار لما سيسمّى ، بعد بـ الإبداع النسائي ، ورفع المظلمة التي " سببتها له قرونٌ من التاريخ " ، لأن هذا " مفروغٌ منه " ، بل أيضاً " إبراز أسطورة الأنوثة وإدارتها في ضمير الجماعة الأدبية " معنى هذا أن " النقد النسائي " أصبح من مهامه المهمة " البحث عن خصوصية الأدب النسائي ، وعلامات الأنوثة فيه لتميزها عن علامات الذكورة التي تعتبر علامات محايدة ، خاصة وأن هناك أوجاعاً خاصة بوضع المرأة في المجتمع ، المرأة الكاتبة فقط هي التي تستطيع التعبير عنها طبقاً لما يمكن أن يحدث من تماهٍ خاص بينهما " .
هنا تم إفراز ثلاثة أنواع من الاتجاهات الأدبية النسائية : الاتجاه الوحدوي ، والاتجاه النسائي ، والاتجاه النسوي .
أ- الاتجاه الوحدوي في الأدب :
لم يكن " الرجل " وحده هو من رفض فكرة " تأنيث الأدب " ، بل الحاصل أن جزءاً كبيراً من هذا الرفض هو ، في الغالب الأعم ، صادر عن أديبات معروفٌ عنهن أنهن " كرّسن حياتهن لخدمة قضايا المرأة " ، لكن هؤلاء لما وجدن " خطورة التفرقة بين الأدب النسائي والأدب الذكوري " وأن هذا سيعود بالضرر على المرأة بالدرجة الأولى ، وقفن بصف الرفض لهذه التسمية … ومن الأسباب التي قدّمْنها لموقفهن هذا :
1- استحالة " الفصل الجنسي " بين الرجل الأديب والمرأة الأديبة ؛ فاللغة التي يكتب بها كلاهما واحدة ، وكذلك الكثير من القضايا التي يعالجها كلاهما هي ، بالأساس ، قضايا إنسانية تهم الرجل كما تهم المرأة … : " إنه ، رغم وجود اختلاف عام في وجهات النظر بين الجنسين ، فإن المشكلات ، والمواقف الأساسية في الحياة ، ومن ثم في الفن ، تبقى لا هي مؤنثة ولا هي مذكرة ، وإنما هي ، ببساطة ، إنسانيةٌ من وجهة النظر الثقافية الداعية إلى المساواة بين الجنسين " .
لذا رأينا " كاتباتٍ " يرفعن شعارَ " أدب إنساني " لا " أدب نسائي " لأنهن رأيْنَ في تعبير " أدب نسائي " إهانة للمرأة … : " أنا أريد أن أُحَاكَم ككاتبة ، بدون تاء التأنيث ، وأن يحاكَم نصّي منفصلاً عن أنوثتي ، ودون مراعاة أي شيء " .
2- هذه " التفرقة " ستضر " قضايا المرأة " في المقام الأول ؛ فإن تضخيم " قضية الإبداع النسائي " وتوجيه الاهتمام الزائد إليها لهو " مخطط جهنمي يؤدي إلى عزل إبداع المرأة خارج السياق العام للأدب " ما يعني ، عند هؤلاء ، أن " تعيد الكاتبة إنتاج قهرها مرة أخرى من خلال آليات النفي والإقصاء " وبهذا تكون الصورة أن الرجل " لم يعد يملك أن يسجن المرأة " بل المرأة هي " التي صارت تملك " .
3- الحاصل عدم صدق الزعم ، من قبل أنصار الأدب النسائي ، بأن المرأة أقدر على التعبير عن احتياجاتها من الرجل ؛ فـ الأدب الحق " لا يفرق بين الأنوثة والرجولة " … : " دائماً يذكّرونني بأنني امرأة ، وهذا يعني أن عليّ أن أوقع على عرائض تحرير المرأة ، وأنا لا أومن بأن هناك " أدباً نسائياً "، وحتى عندما تكتب المرأة عن الأمومة والحب والأطفال ، فإن ذلك ليس مختلفاً تماماً عن الكتابات الرجالية إلا بمقدار الفروق الفردية " . و … : " إن الروائيين الرجال كتبوا حتى فيما هو تجارِب نسائية ، كالمخاض مثلاً ، أفضل بما لا يقاس من النساء ، لذلك لا أجد أي حَوْجَة لكتابة نسائية " .
4- التحرّز من " الموروث الثقافي " الذي يحقّر أي عمل تقوم به المرأة من حيث الادعاء أنه " عديم النفع " ، ووقتها سيقوم طرحٌ مؤداه أن كل كتابة نسوية إنما هي " نوع من السيرة الذاتية الوجدانية للمرأة ، ليوجِّه للمرأة الكاتبة ، بالتالي ، تهماً مختلفة منها : تحدي سلطة الأب ، والتمرد على العائلة ، مما لا يتلاءم مع الأخلاق والقيم العربية والدينية " وهذا سيؤدي ، في نهاية المطاف ، إلى " شعور المرأة بالغُبن في كثير من علاقاتها بسبب كونها امرأة " .
ب- الاتجاه النسائي في الأدب :
هذا من المصطلحات الـ فضفاضة ؛ فهو قد يدل على " الأدب الذي تكتبه المرأة فقط " ، وقد يدل على " الأدب الذي تكتبه النساء والرجال عن المرأة من أجل أن تستهلكه المرأة " ، وقد يدل على " الأدب النسوي ( = Feminist Literature ) الذي يصدر عن خطاب الحركة النسائية وصراعها من أجل تحرير المرأة وتحقيق المساواة بين الجنسين على كل الأصعدة ، وتعبير المرأة عن ذاتها وعن تجاربها " .
وترجع جذور الدعوة إلى تكريس ، وتدعيم ، نظرية الفصل بين الأدبين " الذكوري " و " النسائي " بشكل مفرط في التشدد إلى كاتبات غربيات أعلنَّ أن هدفهن " هدم الخطاب الذكوري الأبوي الذي هيمن على الثقافة الاجتماعية تاريخياً " … : " على المرأة ، أو الكاتبة ، في حربها مع المجتمع الذكوري ، أن تسعى ، دوماً ، إلى التمرد لتحقيق ذاتيتها الاجتماعية والنفسية المتساوية مع الرجل حقيقةً لا تزييفاً ، ومن خلال هذا التجاوز الثقافي يمكن أن تبتدع المرأة الكاتبة لنفسها لغةً خاصةً مغايرةً للغة السائدة لتمكنها هذه اللغة الخاصة من التأكيد على خصوصية النظرية النسائية المقنعة التي لايمكن أن تنبثق إلا من تجربة المرأة ، أو من لا شعورها " وكأن هذه دعوةٌ لـ " تنتج النساء لغتهن الخاصة ، وعالمهن المفهومي الخاص الذي ربما لا يكون عقلياً عند الرجل " .
وتماهياً مع هذه الدعوة كتبَ أحدهم مادحاً إحدى من فعّلن هذه الدعوة الغربية في بلاد العرب والمسلمين : " إنها نجحت في كسر سلطة الرجل على اللغة ، هذه اللغة التي كانت منذ أزمنة طويلة حكراً على الرجل واتسمت بفحولته ، وهو الذي يقرر ألفاظها ومعانيها ، فكانت دائماً تُقرأ وتُكتب من خلال فحولة الرجل الذي احتكر كل شيء حتى اللغة ذاتها " .
ج- الاتجاه النسوي في الأدب :
وهذا ، أيضاً ، مصطلح غربي بامتياز ، بدأ ظهوره في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي ، وصار له " حيثية " بعد أن شهدت الساحة الأدبية الإنجليزية " أكثف حضور نسوي في سياق الرواية ؛ فقد سجلت بيبلوغرافيا كمبردج للأدب الإنجليزي حضور أكثر من أربعين كاتبة روائية بين 1830- 1940م نشرن ما يقارب ثلاثمائة رواية " .
وبرأي الناقدة الفرنسية هيلين سيكيوس ، فإن السبب في إيجاد هذا النوع الأدبي يعود إلى أن المرأة : " لا تكتب مثلَ الرجل ، لأنها تتحدث لغة جسدها "، والنص " النسائي ، عند هذه الناقدة الغربية ، هو : " نص واقعي مَحكيٌّ من وجهة نظر امرأة " وبذلك تصفه بأنه : " نص يحاول تحطيم الصور التقليدية للأنوثة التي يكرسها المجتمع الطبقي الأبوي " ، وتحدد هذه الناقدة وسيلة تحطيم تلك الـ صور التقليدية ذات التعلق بما أسمته " المجتمع الطبقي الأبوي " بـ : " اللغة الخاصة جداً بالمرأة ، لأنها خاصة بجسدها " .
هذا عن " الغرب " ونسائه ، أما في عالمنا العربي والإسلامي ، فالملاحَظ أن هكذا مصطلح لم يجد اهتماماً إلا في أواخر الثمانينيات والتسعينيات من القرن الميلادي الماضي ؛ فشوهد اهتمامٌ " حقيقيّ " بما سيسَمّى ، بعد ، الحركة النسوية في العالم العربي ، وستتضخم الحركة ، وستتضخم مطالبها خاصة حال نعلم " تبني " الأمم المتحدة لكثير من " البرامج الأسرية " … تلك البرامج " الأممية " التي ستثير كثيراً من الجدل الفكري حول العلاقة بين " الرجل والمرأة " … أو ، وبلغتهم ، بين " الذكر والأنثى " ، ثم سنتابع عقدَ " المؤتمرات " التي سيقدّم لها بـ صخَب إعلاميّ زاعق عبر غير وسيلة ، ما سيمهّد لها غير نجاح لتتمكن من " فرض " تغيير جذري في مجال : التشريعات ، والتصويت الانتخابي … وغير ذلك من المجالات .
وبمد الحبل على استقامته ، سنقرأ حتى رفضاً لمصطلح " تاريخ " ( = History ) كما تعاملْنا معه عقوداً من الزمان طويلةً لنطالع فيه تاريخ " الناس " ، فتطالعنا الأخبار بـ جهود جبّارة للكتابة عن تاريخها ( = Her story ) وهو مدخل لـ " كتابة التاريخ من وجهة نظر نسائية " وهذه دعوة ، اللهُ أعلم بخفاياها ، ستعمل على " إعادة كتابة التاريخ من وجهة نظر نسائية " ، وستتولى قائماتٌ على الجمعيات المنضوية تحت هذا التوجه إنشاءَ المجلات ، وإصدار الكتب ، التي سيعاد فيها كتابةُ بعض القَصص التاريخي من جديد ، وسيتم استبدال كتابة النصوص التاريخية بـ " أقلام نسائية " معاصرة بتلك التي كُتبت بـ " أقلام رجال " .
يُتْبع …
5- التغريب و … القيم والمفاهيم :
مُلاحَظ الـ ارتباط الصري بين " دعوات الحرية " في الكتابة النسائية ودعوة بعض الكاتبات الغربيات نساءَ العالم إلى " التحرر وتأكيد ذواتهن في الإبداع وابراز هويتهن الأنثوية وميزاتهن مقابل التسلط الذكوري " … : " " اكتبي نفسَكِ ، يجب أن تسمعي صوت جسدك ، فذلك وحده هو الذي يفجّر المصادر الهائلة لِلاشعور " .
وعلى الصعيد العربي / الإسلامي ، فقد وُجِدَ صدىً لمثل هذه الـ دعوات دون أية مراعاة لا للتاريخ ، ولا للخصوصية الاجتماعية ، ولا حتى للخصوصية النسائية في العالم العربي / الإسلامي ، فكان أن قامت بعض أديباتنا بـ " تبنّي " " بعض " مفاهيم المنظومة الغربية الفكرية والاجتماعية … بل والعَقَدية والاجتماعية ، فكتبن مستلهماتٍ هذه الـ قيم الغربية التي لم تراعي أية خصوصية للمرأة العربية ، تلك الـ خصوصية التي تميّز " نساءنا " عن غيرهن من نساء العالمين .
فهناك من أخذن بمفهوم " الحرية الفكرية " كمدخل للانفلات من أية ضوابط اجتماعية أو دينية ، ورحن يرفعن هذا المعتنق بحسب القيم التي يأخذ بها الفكر الوجودي ، ذلك الفكر الذي يقوم ، بالأساس ، على مفهوم " حتمية الصراع بين حرية الفرد ومصلحة المجتمع " .
وهناك أخريات أخذن الأمر بحسب الرؤية الماركسية التي ترى " أن تطبيق الحرية الفردية ينسجم مع الشرائع والقوانين السائدة " ، ذلك لأن الإنسان ، عندهم ، " ربيب بيئته التي ينشأ فيها " ، وهؤلاء لا ينفون " وجود حالات تتعارض فيها حرية الفرد مع سير الأمور في مجتمعه " والحل " في كلتا الحالتين ، ولكي يكون الإنسان حراً ، عليه أن يختار نهجاً ، أو نظاماً ، سياسياً خلقياً معيناً يقوم على ضوئه باتخاذ قراراته على المستويين العام والخاص ، وعليه ، أيضاً ، أن يخوض معركة الصراع العقائدي إذا وُجد في مجتمع لا تتفق شرائعه وأسسه مع ما يرتئيه الفرد " .
وبنفس القدْر ، فإنه لوحظ أن من نتائج " تأثر " الفكر النسائي في بلادنا العربية / الإسلامية بمفهوم الغرب للحرية ، وهي عند الغرب غير محدودة ، أن صار الأمر وكأنه " وسيلة " لرفض الآخذات بهكذا فكر " وصاية " الرجل ، و لـ " تحدي " العادات والتقاليد ، تلك التي أشعن إنها السبب في " تكبيل حرية " المرأة من خلال ما تم تسويقه عن " العفة والشرف والاحتشام وأدب اللسان " ، وقد رأت بعضهن أن هذه القيم والمبادئ قد تم فرضها من قِبَل الأديان والأعراف المجتمعية . وصار الأمر ، بهذه الرؤية التي تشبعت بالمفاهيم والقيم الغربية ، أن الأخذ بالقيم العربية والإسلامية سوف يؤدي إلى " كبت حرية المرأة ، وخاصة الأديبة الكاتبة التي تحتاج ، أكثر من غيرها ، للحرية في كتابتها الإبداعية " .
من هنا ، لم يصبح مستغرباً أن تدافع الكاتبات الواقفات بصف " الأدب النسائي " عن " حقهن " في التعبير عن " تجاربهن الخاصة " بكل حرية … بل وربما تجاوز الأمر الحريةَ لتختلط بـ الإباحية ، وينشر التعبير " بدون حياء من مخلوق ، أو خوف من خالق " ، ما أنتج ما أصبح يسمى بـ " الأدب الجنسي " ، أو " الأدب المكشوف " ، وهو هذا النوع من الكتابات الأدبية التي تنزع نحو التركيز على " السلوك الجنسي " كواحد من " أهم " دوافع السلوك لدى الإنسان ، وصار الأمر أنه " لا يُعيب المرأة أن تتحدث عنه في إطار حرية الإبداع المرتكزة على الواقعية " ، لأنه " عندما تكتب المرأة ، فذلك يعنى أنها تكتب نفسها بعد أن تسقط كل الحوائل من الأفكار والتصورات الموروثة التي تجعل المرأة عدوةً لجسدها ولنفسها ، ولتستر وحدة كيانها . ولم يعد هناك ما يفصل بين الكاتبة والموضوع ، فتهدم المرأة عن خيالها وذاكرتها كل موروث العبودية " .
أما المفاهيم العَقَدية … أو التي تصادم العقيدة ، فقد تنوعت في كتابات هؤلاء بدءاً بـ " الشعور بعبثية الحياة " وبأن العدم " خيرٌ من الوجود " ، وأن المشاعر الطيبة " قيدٌ للإنسان " ، وأن الإنسان " غيرُ مسؤولٍ أمام شيء " ، وانتقالاً إلى " العلمنة " بحيث يُنظر إلى الكون " كوجود قائم بذاته بمعزل عن خالقه " ، وانتهاءً بـ " الكفر " الصراح … وقد أعلنه بعض الكاتبات كهذه التي التي رُفعت ضدها دعوةٌ قضائية لقولها عن بعض " المعلوم من الدين بالضرورة " : " إن الله هو الحب ، إنما الله مش أروح الكعبة أبوس الحجر الأسود ، وألبس حجاب وأطوف … دي وثنية … الحج بقايا الوثنية " .
وأخيراً ، جاء تأثير الغرب على المفاهيم ذات التعلق بما هو داخلٌ في " الاجتماعيات " بوجه عام ، وتلك التي تتعلق بالمرأة ، ودورها في المجتمع ، بوجه خاص ، فكان أن ظهرت أعمالٌ أدبية اتخذت من " حقوق المرأة " و " مطالبتها بالمساواة " مادةً أساسيةً لها … : " لأنني امرأة أصدّر بطلاتِ رواياتي كما أريد . أنا المرأة المؤمنة بالعلمنة ، وبأن المرأة إنسانٌ سويّ ، لها كما للرجل ، ذاتٌ مستقلة ، ولها ، كما له ، حقوقٌ وواجبات . ولا شك في أن للأنثى حساسيةً ووجهةَ نظرٍ غيرَ حساسية الرجل ووجهة نظره " … ولنا أن نطالع روايات مثل " نقطة الدائرة " !!! وقد أثارت " حفيظة عدد كبير من الرجال والنساء والمثقفات أنفسهن " .
إذَن ، نحن أمام غير سبب يقف وراء تقليد " المرأة العربية ، والمسلمة ، المرأةَ الغربية ، ونقل تجربتها إلى مجتمعاتنا ، حتى قلدت نساؤنا نساءهم فـ اتهامها الرجل والدين والمجتمع باستحداث عوامل قهر دائمة ومتجددة للمرأة . ومن هذا التقليد ، نجح الأعداء في الدخول إلى " عقلية " و " تفكير " المرأة ، فتم استلابُها قيمياً ، وتولدت لديها " قيمٌ " و " تصوراتٌ " غير تلك التي تنتمي للعرب والإسلام ، وتملكت نساءَنا قناعةٌ أنها إن أرادت الحصول على حريتها ، فلا بد من أن تتبع خطى المرأة الغربية حذو النعل بالنعل ، كما أن عليها أن تتبنى " الأفكار " و " المفاهيم " التي ساعدت المرأة الغربية على التخلص من " تسلط " الرجل و " تسلط " الدين على حد سواء . هذا كله لم يُراعَ فيه " تناقض " قيم ، ومفاهيم ، وتصورات ، وظروف ، وخصوصية ، المرأة الغربية مع قيم ، ومفاهيم ، وتصورات ، وظروف ، وخصوصية ، المرأة العربية التي ترتبط بتاريخها وثقافتها وعقيدتها .
على الحريصين على هوية الأمة وقفةُ محاسبة وتأمل وإدراك لماهية تلك " الحرب " على الهُوية والتراث واللغة ، وهذه يقودها أعداء الخارج والداخل لأجل طمس الهوية العربية الإسلامية … وليراجع من يشاء آخر ، وأكثر ، مطبوعات بعض دور النشر الغربية ، ليجد أنها من صنف / نوع الكتب التراثية ، وحتى المعاصرة ، ذات التعلق بـ بالايروتيكا والشبقية .
انتهى .