- عز الدين رمضاني
من الأخطاء الشَّائعة الَّتي درج عليها كلام العامَّة، ولهجت بها ألسنة الوعَّاظ، وسطَّرتها بعض أقلام الكُتَّاب، الاستدلال أو الاستشهاد ببعض آيات القرآن أو جزءٍ منها في غير ما نزلت فيه(1)، أو وُضعت له حكمًا أو معنى، أو هما معًا، معتقدِين ـ جهلًا أو تجاهلًا ـ أنَّها نصٌّ في المسألة التي يريدون الاحتجاج لها ودليلٌ عليها، أو أنَّ تلك الآية لا تحتمل إلَّا معنى واحدًا ـ وقد يكون مرجوحًا ـ، أو يجوز أن تحمل على عدَّة معانٍ دون ترجيح معنًى على آخر مع وجود ما يقتضي التَّرجيح، وقد جرَّهم إلى مثل هذا الخطأ وقوفهم على ظاهر الألفاظ دون مراعاة المعاني، أو تجريدهم السِّياق من سوابقه ولواحقه، أو إهمالهم لما يجب علمه مِمَّا يكون سببًا وسندًا في فهم الآية؛ كعلم أسباب النُّزول وعلم المكِّي والمدني وعلم المناسبات بين السُّور والآيات، واختيارهم المعنى بمجرد ما يتبادر إلى الذِّهن من معانٍ قد تكون صحيحة، من غير نظرٍ إلى المتكلِّم بها، وهو الله ـ عزَّ وجل ـ، ولا نظرٍ إلى المنزَّل عليه ولا إلى المخاطَب به.
وهذا من التَّساهل الَّذي أدَّى إلى الوقوع في أخطاء جِسام ومخالفات عِظام لا تليق بمقام أشرف الكلام، كاتِّخاذ بعض آياته أو جزءٍ منها مضربًا لمثل هازل، أو اقتباس خاطئ أو قياس باطل.
وصونًا لكتاب الله المنزَّل، وَرَفْعًا لِشَأْنِهِ وقَدْرِه، وتصحيحًا للمفاهيم والإطلاقات الخاطئة ارْتَأَيْتُ تبصيرَ القرَّاء على صفحات مجلَّتنا ببعض هذه الاستشهادات التي سِيقت في غير محلِّها، أو قِيلت من غير ضَبْطٍ لمبناها وفَهْمٍ لمعناها، ومِنَ الله أسْتَمِدُّ العون والتَّوفيق والصَّواب والسَّداد.
* الآية الأولى: قوله تعالى: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾[الأنعام:38].
ـ وجه الخطأ: قصر المعنى على تفسير مرجوح.
ذهب بعض المفسِّرين وتبعهم على ذلك كثير من الوعَّاظ والكتَّاب إلى أنَّ المراد بالكتاب في هذه الآية: «القرآن»، دون إشارة أو إِيماءٍ إلى مرادٍ آخر يكون مشتركًا معه في المعنى، أو أقوى منه وأظهر، كتفسير الكتاب باللَّوح المحفوظ الذي هو المعنى الرَّاجح.
وقد اقتصر على اختيار القول بأنَّ المراد من الكتاب في هذه الآية هو القرآن جماعة من المفسِّرين كالسَّمعاني في «تفسيره» (2 /101) وأبي الحسن علي بن أحمد الواحدي أستاذ عصره في التَّفسير في كتابه «الوجيز في تفسير الكتاب العزيز» (1 /352) واكتفى الماوردي في تفسيره «النكت والعيون» (1 /113) بذكر تأويلين لمعنى الكتاب، أحدهما: إيجاب الأجل، والثَّاني: القرآن ونسبه إلى الجمهور، ولم يُشر إطلاقًا إلى أنَّه اللَّوح المحفوظ.
وممن رجَّح القول بأنَّه القرآن مع ذكره للقول الآخر ابن عطيَّة في «المحرَّر الوجيز» (2 /290) وعبارته: «والكتاب: القرآن وهو الذي يقتضيه نظام المعنى في هذه الآيات» وهي نفس العبارة التي قالها الثَّعالبي صاحب «الجواهر الحسان» (1 /620) وعنه أخذها، وتبع ابن عطية في ذلك أبو حيَّان في تفسيره «البحر المحيط» (4 /126)، فقال بعد أن ذكر المعنى الأوَّل للكتاب ـ وهو اللَّوح المحفوظ ـ: «أو القرآن، وهو الذي يقتضيه سياق الآية».
ومن المتأخِّرين الَّذين قالوا بترجيح قول من قال بأنَّه القرآن: الآلوسي في «روح المعاني» (7 /144) وقد جزم به مستدلًّا له.
هذا ولم يُرجِّح القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» (3 /420) عند ذكره للمعنيين (القرآن واللَّوح المحفوظ) أحد القولين، وإن كان يُفهم من سياقه ميله إلى أنَّه القرآن، ومثله الشَّوكاني في «فتح القدير» (2 /114)، وصدِّيق حسن خان في «فتح البيان» (4 /136).
ـ ترجيح القول في أنَّ المراد بالكتاب اللوح المحفوظ:
أوَّلًا: ثبوته عن ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: فقد أخرج ابن جرير في «تفسيره» بتحقيق التُّركي (9 /234) بسند حسن(2) عن علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾ ما تركنا شيئًا إلَّا قد كتبناه في أمِّ الكتاب.
وأخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (4 /1286) من طريق أبي صالح به، وعزاه السُّيوطي في «الدُّر المنثور» ـ تحقيق التركي (6 /45) إلى ابن المنذر.
ثانيًا: هو قول بعض التَّابعين ممَّن اشتهر بالتَّفسير، ومنهم ابن زيد كما في «تفسير الطَّبري» ـ تحقيق التركي (9 /234)، وابن أبي حاتم (4 /1286)، وقتادة كما في «زاد المسير» لابن الجوزي (3 /35)، و«الدُّرّ المنثور» للسُّيوطي ـ تحقيق التركي (6 /45) ونسبه إلى عبد الرَّزَّاق وأبي الشَّيخ.
ثالثًا: اقتصار بعض مشاهير المفسِّرين على القول به دون غيره(3).
1 ـ مقاتل بن سليمان في «تفسيره» (1 /345).
2 ـ ابن جرير الطبري في «تفسيره» (9 /232).
3 ـ ابن أبي حاتم في «تفسيره» (4 /1286).
4 ـ ابن أبي زمنين في «تفسير القرآن العزيز» (1 /67).
5 ـ الثَّعلبي في «الكشف والبيان في تفسير القرآن» (2 /532).
6 ـ البغوي في «معالم التَّنزيل» (2 /95).
7 ـ الزمخشري في «الكشاف» (2 /342).
8 ـ ابن كثير في «تفسير القرآن العظيم» (3 /20).
9 ـ القاسمي في «محاسن التَّأويل» (3 /305).
رابعًا: ترجيح بعض المحقِّقين لهذا القول على الآخر؛ ونذكر منهم:
1 ـ ابن القيِّم في كتابه «شفاء العليل» (طبعة العبيكان) (1 /164) فبعد إقراره للخلاف الوارد في معنى الكتاب؛ هل هو القرآن أو اللَّوح المحفوظ، رجَّح الثَّاني، وقال بأنَّه الأظهر في الآية، والسِّياق يدلُّ عليه.
2 ـ السَّعدي في «تفسيره» (2 /20) يفهم ذلك من بسطه القول في أنَّ المراد به اللَّوح المحفوظ، وأشار إلى المعنى الثَّاني بقوله: «ويحتمل أنَّ المراد بالكتاب هنا القرآن».
3 ـ القاسمي في «محاسن التَّأويل» (3 /307) قال تحت عنوان (تنبيهات): «السَّادس: ما بيَّنَّاه في معنى (الكتاب) من أنَّه اللَّوح المحفوظ في العرش، وعالم السَّماوات المشتمل على جميع أحوال المخلوقات على التَّفصيل التَّامِّ ـ هو الأظهر، لملاقاته للآية التي ذكرناها تأييدًا للنَّظائر القرآنية».
4 ـ الأمـين الشّنقيطي في «العذب النمير» (1 /271) قال: «أكثر المحقِّقين على أنَّه اللَّوح المحفوظ».
خامسًا: حجَّة من نَصَر القول بأنَّه اللَّوح المحفوظ.
وقد عرض لبعض هذه الحجج العلَّامة ابن القيِّم في كتابه المذكور آنفًا، وسنسوقها بشيء من التَّصرُّف والتَّقديم والتَّأخير.
1ـ دلالة السِّياق عليه في الآية نفسها: فإنَّه تعالى قال: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم﴾[الأنعام:38].
قال ابن القيِّم (1 /164): «وهذا يتضمَّن أنَّها أممٌ أمثالنا في الخلق والرّزق والأجل والتَّقدير الأوَّل، وأنَّها لم تُخلقْ سُدًى، بل هي معبَّدة مذلَّلة، قد قدر خلقها وأجلها ورزقها وما تصير إليه، ثمَّ ذكر عاقبتها ومصيرها بعد فنائها، فقال: ﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُون﴾[الأنعام:38] فذكر مبدأها ونهايتها، وأدخل بين هاتين الحالتين قوله: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾، أي كلّها قد كتبت وقدِّرت وأحصيت قبل أن توجد، فلا يناسب هذا ذكر كتاب الأمر والنَّهي، وإنَّما يناسب ذكر الكتاب الأول».
أقول: ومن القواعد في التَّفسير الَّتي تشهد لهذا المعنى الذي ذهب إليه ابن القيِّم أنَّه «إذا كان للاسم الواحد معانٍ عدَّة حُمل في كلِّ موضع على ما يقتضيه السِّياق»(4) ولا يخفى أن من معاني الكتاب القرآن كما في مواضع كثيرة من القرآن، بل هو من أخص أسمائه، وأمَّا هنا في آية الأنعام فإنَّ السِّياق لا يدل عليه فلا يتعيَّن الجزم به، وعليه فإنَّ ما ادَّعاه الفخر الرَّازي في «تفسيره» (12 /215) من أنَّ المراد بالكتاب في الآية هو القرآن وأنَّه الأظهر، بحجَّة أنَّ الألف واللَّام إذا دخلا على الاسم المفرد انصرف إلى المعهود السَّابق، والمعهود السَّابق من الكتاب عند المسلمين هو القرآن، فليس بمسلَّم، وأبعد من قول الرَّازي قولُ ابن عطيَّة وأبي حيَّان إذِ ادَّعيا أنَّ سياق الآية يدُّل عليه ويقتضيه، وقد مرَّ.
وممَّن استبعد أن يكون لفظ الكتاب هنا القرآن الطَّاهر بن عاشور في «التَّحرير والتَّنوير» (7 /217) مع أنَّه لم يُشر إشارة صريحة إلى المعنى الرَّاجح الَّذي هو اللَّوح المحفوظ، واختار القول بأنَّ الكتاب هنا بمعنى المكتوب وهو المكنَّى عنه بالقلم، فقال في تفسيره: «وقيل: الكتاب القرآن، وهذا بعيد إذ لا مناسبة بالغرض على هذا التَّفسير».
2 ـ دلالة السِّياق على المعنى في الآية التي قبلها وهي قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ الله قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُون﴾[الأنعام:37] والمراد بقوله ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ﴾[الأنعام:37] كما قال ابن كثير في «تفسيره»: (3 /60) أي: «خارق على مقتضى ما كانوا يريدون وممَّا يتعنَّتون»، وهذا ينفي قول من قال إنَّ المراد بالآية المنزَّلة هو القرآن، ويرجِّح القول بأنَّه اللَّوح المحفوظ، ووجه التَّرجيح كما قال ابن القيِّم أنَّهم «لما سألوا الآية أخبرهم سبحانه بأنَّه لم يترك إنزالها لعدم قدرته على ذلك، فإنَّه قادر على ذلك، وإنَّما لم ينزِّلها لحكمته ورحمته بهم وإحسانه إليهم، إذ لو أنزلها على وفق اقتراحهم لعوجلوا بالعقوبة إن لم يؤمنوا، ثمَّ ذكر ما يدلُّ على كمال قدرته بخلق الأمم العظيمة الَّتي لا يُحصي عددَها إلَّا هو، فمن قدر على خلق هذه الأمم مع اختلاف أجناسها وأنواعها وصفاتها وهيئاتها كيف يعجز عن إنزال آية! ثمَّ أخبر عن كمال قدرته وعلمه بأنَّ هؤلاء الأمم قد أحصاهم، وكتبهم، وقدَّر أرزاقهم وآجالهم وأحوالهم في كتاب لم يفرط فيه من شيء، ثمَّ يميتهم ثمَّ يحشرهم إليه ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ﴾[الأنعام:39] عن النَّظر والاعتبار الَّذي يؤدِّيهم إلى معرفة ربوبيَّته ووحدانيَّته وصدق رسله، ثمَّ أخبر أنَّ الآيات لا تستقلُّ بالهدى ولو أنزلها على وفق اقتراح البشر، بل الأمر كلُّه له ﴿مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم﴾[الأنعام:39] فهو أظهر القولين والله أعلم»(5).
وقد سقتُ كلام ابن القيِّم برُمَّته ليظهر تهافت ما ذكره الخفاجي في توهين قول من قال(6): «حمله (أي الكتاب في آية الأنعام) على القرآن لا يلائم ما قبله وما بعده»، حيث فنَّدَ هذا المعنى وهو صحيح ـ كما ترى ـ؛ فقال(7): «ويدفع بأنَّ المعنى لم نترك شيئًا من الحجج وغيرها إلَّا ذكرناه، فكيف يحتاج إلى آية أخرى ممَّا اقترحوه ويكذِّب بآياتنا».
وخلاصة القول في خاتمة هذا المقال هو بيان ترجيح قول من فسَّر الكتاب في الآية المذكورة آنفًا باللَّوح المحفوظ، وهو مدلول الآية المطابق كما عند المحقِّقين، لذا ينبغي التَّنبيه عليه والقول به عند الاستدلال بهذه الآية، وأنَّه المعتمد والمقدَّم على غيره، وعليه فلا يصحُّ أن تُقصر الآية على القول الآخر (وهو القرآن)، ومع ذلك فإنَّه لا بأس بالاستشهاد بها على صحَّة هذا المعنى المرجوح لتضمُّن القرآن الوصف المذكور «ما فرَّطنا» على ما ذكرنا في هامش البحث من جواز الاستشهاد بالآيات في غير ما نزلت فيه، وخاصَّة إذا انضاف إلى ذلك قول بعض أهل العلم به، واقتصار بعضهم الآخر عليه فقط كما سبق بيانه، والعلم عند الله تعالى.
(1) الاستشهاد بالآيات في غير ما نزلت فيه وتنزيل آيات الكفَّار على المؤمنين، جائز في الجملة إذا رُوعيت بعض الشُّروط والضَّوابط الَّتي لابدَّ منها، انظر بحثًا نفيسًا في «مقالات في علوم القرآن وأصول التَّفسير» للدُّكتور مساعد بن سليمان الطيَّار من (ص269 إلى 276).
(2) «التفسير الصَّحيح» للدُّكتور حكمت بشير ياسين (2 /237).
(3) لم أقصد الاستقصاء والحصر.
(4) «محاسن التَّأويل» للقاسمي (1 /262) و«قواعد التَّفسير» لعثمان السَّبت (1 /422).
(5) «شفاء العليل» (ط/العبيكان) (1 /165و 166).
(6) «محاسن التَّأويل» للقاسمي (3 /307).
(7) «محاسن التَّأويل» للقاسمي (3 /307).
* منقول من مجلة الإصلاح « العدد 3 »
المصدر ..موقع راية الاصلاح