يَقْدُمُ علينا الصَّيف كَكُلِّ عام، يحمل معه المسَرَّات والمضرَّات، والنَّاس فيه يصولون ويجولون، وإلى الدَّعة والرَّاحة يخلدون، فمن مُطْلِقٍ لِعَنَانِ الشَّهوات مُنْغَمِسٌ في بحار المحرَّمات، لا يصادف شهوةٍ إلاَّ أتاها، ولا معصيةً إلاَّ ركبها.
ومِنْ كابحٍ لنزوات الشَّرِّ، ومجاهدٍ لشيطان الجنِّ والإنس، يخاف النِّقمة وسوء المنقلب في هذه الدَّار، ويطمح إلى نيل اللَّذَّات في دار القرار.
وموسم الصَّيف الَّذي هو موسم العُطَلِ والإجازات، يسيء النَّاس فيه استغلال الأوقات، وينشط فيهم داعي الرَّغبات والشَّهوات، وهم فيه على أقسام وأشكال.
فمنهم الرَّابح ومنهم الخاسر، وفيهم الغانم وفيهم الخائب، «وَكُلُّ النَّاسِ يَغْدُو؛ فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقهَا أَوْ مُوبِقهَا».
فمنهم من يقيم في بلده أو بلدته يقضي إجازته بتعليم أولاده القرآن، ويُحْضِرُهم إلى المساجد ويلزمهم بأداء الصَّلوات، ويراقب حضورهم وغيابهم، ويتعاهد حفظهم وتحصيلهم، فهذا قد نصح أولاده، وحفظ أمانةَ اللهِ فيهم، وسعى في إصلاحهم؛ ليكونوا له عونًا في الحياة، وخَلَفًا وذُخْرًا له بعد الممَات.
وبعضهم الآخر يسافر لزيارة أقاربه وصلة أرحامه، ويقضي الإجازة معهم؛ لتقرَّ أعينهم به ويؤدِّي إليهم حقَّهم.
فهذا مأجور قد استفاد من وقته وأدَّى ما عليه.
وبعضهم يسافر للنُّزهة في داخل البلاد أو خارجها، ولكن بين أظهر المسلمين، يقضي وقتَه فيها، مستمتعًا بمناظرها، متجوِّلاً في أنحائها، محافظًا على دينه، ملتزمًا بأخلاقه، فعملُه هذا مباح لا لومَ عليه فيه.
وبعضهم يقضي الإجازة في اللَّهو واللَّعب، وترك الواجبات وفعل المحرَّمات، يرتاد مواطن الفسق والفجور، وشواطئ العُرْي والْمُجُون، أو يسافر إلى بلاد الكفر، حيث العُهرُ والخَمْرُ؛ فينغمسَ في أوحال الضَّلالة ويتربَّى في أوكار السّفالة، يقضي وقته بين لهوٍ ومزمارٍ، ومسرحٍ وحانةٍ وقمار، وربَّما يستصحب أولاده وزوجته؛ ليأخذوا حظَّهم من الشَّقاء والبوار! فهذا الَّذي قد ضيَّع زمانه وباء بالإثم والخسران.
فيجب على جميع المسلمين أن يكونوا على حَذَرٍ وحيطة من أمرهم، وأن لا يُقْحِمُوا أنفسَهم وَذَوِيهِمْ في أوحال الْمُهْلِكَات.
وعليهم بحفظ أوقات هذه الإجازة فيما ينفعهم في دنياهم وأُخْرَاهُمْ.
ولا مانع من أن يعطوا لأنفسهم قِسْطًا منَ الرَّاحة ونصيبًا من الاستجمام الخالي من الإثم والعدوان.
وعليهم بملاحظة أولادهم وتوجيههم إلى استغلال هذه الإجازة بما يعود عليهم بالنَّفع، لا بالضَّرر والخسران.
وما دمنا على أبواب فصل الصَّيف، وحتَّى يثبت من وفَّقه الله للثَّبات، وحتَّى لا يؤول الأمر إلى الضَّياع والشَّتات، فإنَّنا ننبِّه إلى ضرورة عَزْلِ أبنائنا وبناتنا عن ذلك الوسط الْمُرِيبِ؛ مِنْ أماكن الاصطياف والاستجمام، كشَّواطئ البحار والمنتزهات الَّتي يكثر فيها العُري الكاشف، والاختلاط الفظيع، والفساد العريض، والتي لا يُرَاعى فيها أدنى صفات المروءة وشِيَمِ الأخلاق.
فتجنُّب هذه الأماكن فريضةٌ شرعيَّة، وضرورة حتميَّة تقي مصارع السُّوء وتجنِّب المصير المشؤوم. فإن قال قائل: وما نفعل بأبنائنا؟ أَنحرمهم من اللَّعب والمرح والتَّنزُّه؟
فالجواب: إنَّ الله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم: 6].
فإنَّ الوَلَدَ إذا شبَّ على شيء شاب عليه، ثمَّ لا مانع من البحث عن الأماكن النَّظيفة المصونة، وإن كانت قليلة.
كما لا يفوتنا أن ننبِّه على هذا الَّذي يسمُّونه بالتَّخييم الصَّيفي، ففيه من الفساد والتَّضييع، والانحلال والتَّمييع، ما الله به عليم، ولا يخفى أمره على اللَّبيب، تساق إليه فلذات الأكباد كسوق النِّعاج إلى حتفها.
والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السَّبيل، والحمد لله ربِّ العالمين.