إنَّ وضع الإبـَاضِـيَّة بالنسبة إلى إخوانهم من المذاهب الأخرى وضع غريب، فبرغم من أنـَّهم يعيشون في بعض البلاد مندمجين مختلطين بإخوتهم من المذاهب الأخرى، يتعاملون معهم في جميع شؤون الحياة كما يتعامل بعضهم مع بعض. وتربط الكثير منهم علاقات مودَّة وصداقة أوثق كثيرا مِمَّا تربط أهل المذهب الواحد، ويتصرَّف أولئك الإبـَاضِـيُّون في المجتمع تصرُّف المسلم الطبيعيِّ، لا يخفى ولا يشذُّ شيء من سلوكهم الدينيِّ أو المدنيِّ، ولا ينقم عليهم إخوتــهم ــ أولئك الذين يعيشون معهم في السرَّاء والضرَّاء ــ بدعةً يعرفونها، أو انحرافاً يرونه، أو خلافاً يدعو إلى سوء الظنِّ. رغم كلّ هذا فإنَّ تلك الكلمة التي أطلقتها عليهم شفة مغرضة مجهولة، في فترة كانت السياسة تلعب فيها أهمَّ الأدوار في توجيه الفهم لمن ينتقد انحرافها عن منهج العدول من أصحاب الرسول (ص)، منذ ذلك التاريخ في العصر الأمويِّ ــ فيما يبدو ــ والإبـَاضِـيَّة يقفون في قفص الاتـِّهام، يقاسون ألم الجفاء من إخوتهم لأنـَّهم ــ فيما تزعم تلك التهمة الظالمة ــ (خوارج)؛ ومن المؤسف أنَّ أكثر الكـتَّاب ــ سواء كانوا كتـَّاب مقالات في العقائد، أو كتـَّاب تاريخ يتتـبَّعون مجاري الأحداث السياسيَّة ــ وقفوا بالنسبة إلى الإبـَاضِـيَّة موقف المدَّعي العامِّ الذي يعتقد أنَّ نجاح مرافعته يتوقَّف على إثبات التهمة أو قاضي التحقيق الذي يهمُّه أن يضع أوزار الجريمة على من ساقته الظروف إليه، ووضعته التحريات بين يديه.
فهم يضعون هذا المذهب وأتباعه في قفص الاتـِّهام أوَّلاً، ويحكمون عليهم بأنـَّهم مخطئون لأنـَّهم خوارج، وبعد ذلك قد يبحثون عن الأدلّـة، ولكن لإثبات هذه التهمة، لا لمعرفة الحقيقة.
وعندما يتقدَّم الإبـَاضِـيَّة بعرض عقائدهم وآرائهم والأدلَّة الشرعيَّة التي استندوا إليها، ويـبـيِّنون سيرتهم وسلوكهم، يعتبر ذلك منهم كلاماً في موقف الدفاع، لا يجوز على القاضي الذكيِّ، فهو لا يسمعه، ولا ينظر فيه، وإذا استمع إليه فلكي يلتقط جملاً تعَزِّزُ التهمة، وقد يحرِّفها قليلا حَـتَّى تكون صالحة كدليل للإثبات.
وقد يعرض الإبـَاضِـيَّة عقيدة أو رأياً لهم بأدلَّته وبراهينه وهو في نفس الأمر يوافق عقيدة القاضي. ولكن القاضي يصرُّ مع ذلك أنَّ القوم مخطئون وأنَّ ما يقولونه إِنـَّمَا هو كلام للدفاع؛ ثُمَّ يحكم برفض الدفاع، وإثبات الدعوى، لا لشيء إِلاَّ لأنـَّهم حسبما بلغ إلى علمه (خوارج)، وحـتَّى عندما يقول الإبـَاضِـيَّة عن عقيدة أو رأي: إنـَّه عندهم كفر وخروج من الملَّة، فإنَّ هذا القول لا يقبل منهم، ويستمرُّ إثباته لهم ومحاسبتهم عليه. وقد يبرأون من رجل ومن أعماله وأقواله مِمـَّن لا ينتمي إليهم ولكن يقال لهم أيضًا: بل هذا الرجل من أئمَّتكم، ولو أنكرتم ذلك.
والمشكلة أنَّ رافعي الاتـِّهام لا يحاولون أبدا أن يبحثوا عن الحقيقة، ولا أن يرجعوا في تحقيقهم إلى مصادر الإبـَاضِـيَّة، وإنـَّما يتناقلون التهمة بنصِّها من جيل إلى جيل دون اعتبار لصراخ المتـَّهم الموجود في القفص، أو اهتمام به أو سماع لدفاعه.
وفي عصرنا هذا اهتمَّ عدد من كتـَّاب المقالات، ومحقِّقي الكتب: بشؤون الفرق الإسلاميَّة، وعَرض بعضهم فيما عرض للإبـَاضِـيَّة، وبين يديه كتب قيِّمة لهم يستطيع أن يتَّخذها مراجع يستقي منها أقوالهم ويستطيع أن يعرف فيها أصول ديانتهم وفروعها ويصحِّح ــ متأكِّداً ــ ما يجده من أخطاء عنهم في غيرها، وإلى جانبه علماء فضلاء منهم في إمكانهم أن ييسِّروا له الوصول إلى الحقِّ وَلَكِـنَّهُ في الواقع يزورُّ عن ذلك، ولا يرجع إلى تلك الكتب، ولا إلى أولئك العلماء، وإنـَّما يعود بالتفتيش إلى كتب ليست لهم وإنـَّما كتبها غيرهم عنهم في ظروف مجهولة، وهي غالبا لا تسلم من الأخطاء عن حسن النـيَّة إن سلمت من سوء النـيَّة، بل هي عرضة للأخطاء من عدَّة جوانب منها:
1- عدم توافر النزاهة الكاملة في الكتـَّاب.
2- سيطرة آراء معيَّنة على الكاتب تجعله غير مستعدٍّ لفهم غيرها، أو حَـتَّى مجرَّد مناقشتها.
3- كفاءة الدراسة والتحقيق قد لا تكون عنده بالدرجة التي يفرِّق بها بين الصواب والخطإ.
4- المصادر التي يستقي منها ويعتمد عليها ــ سواء كانت كتبا أم بشراً ــ قد تكون مغرضة، وقد تكون مستغلَّة وقد تكون جاهلة لحقيقة ما تـثبت.
5- وسائل الاتـِّصال التي تساعد على البحث والوصول إلى الحقيقة كالاتـِّصال الشخصيِّ المباشر كانت غير سهلة ولا ميسورة.
6- النفرة بين أتباع المذاهب المختلفة وسوء الظنِّ، وشدَّة التعصُّب، وتمسُّك كلٍّ بما عنده، والحكم مسبقاً على الآخرين بالخطإ والضَّلال؛ هذه العراقيل كلُّـها أو بعضها تجعل الوصول إلى الحقيقة عسيرا حَـتَّى بالنسبة للنزيه الحريص على الحقِّ، فإنَّ سوء الظنِّ يلقي ظلالا من الشكِّ عليه لا تمكِّنه من الإطلاع.
7- الإشاعات الكاذبة، والدعايات المضلِّلة التي تنطلق عن دوافع سياسيَّة غالباً، فتصل إلى ناس موثوق بهم، فتجري على ألسنتهم أو أقلامهم، فتتلقَّفها الآذان دون معرفة مصدرها الحقيقيِّ، والدوافع السياسيَّة الماكرة إلى الإيحاء بها.
هذه بعض الجوانب التي كانت تؤثِّر على الكتـَّاب الأقدمين، وقد انتبه إلـيـها بعضهم، وعرف مدى تأثيرها على المؤلِّفين، وما يتسبَّب عنها من أباطيل تلتصق بطوائف من المسلمين هم منها أبرياء.
يقول أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعريُّ( ) ما يلي:
– مقالات الإسلاميين طبعة النهضة 1369هـ ص33.
«ورأيت الناس في حكاية ما يحكون من ذكر المقالات، ويصنَّفون في النحل والديانات، من بين مقصِّر فيما يحكيه، وغالط فيما يذكره من قول مخالفيه، ومن بين معتمدٍ للكذب في الحكاية، إرادة التشنيع على من يخالفه، ومن بين تارك للتقصِّي لروايته فيما يرويه، من اختلاف المختلفين، ومن بين من يضيف إلى قول مخالفيه ما يظنُّ أنَّ الحجَّة تلزمهم به». فأنت ترى أن أبا الحسن الأشعريَّ ــ وهو من أوائل من كتب في هذا الموضوع ــ قد انتقد عدَّة عيوب في أولئك الذين يتصدَّون للحديث عن مخالفيـهم، كالتقصير في التحقيق، واعتماد الكذب والغلط وعدم التقصِّي في البحث، والزيادة في الأقوال لإلزام المخالفين الحجَّة.
أمـَّا الشهرستانيُّ في كتـَابه (الملل والنحل) فهو لم يذكر نقداً بهذه التفاصيل وإنـَّما أشار إليها من طرف خفيٍّ، فقد قال ما يلي( ):
«وشرطي على نفسي أن أورد مذهب كلِّ فرقة على ما وجدته في كـتبـهم، ومن غير تعصُّب لهم، ولا كره عليهم، دون أن أبيـِّن صحيحه من فاسده، وأعيـِّن حقَّه من باطله».
وهذا الكلام يشعر أنَّ الشهرستانيَّ رأى كما رأى الأشعريُّ من قبله، عدم التحقيق فيما يقال عن الفرق، ولذلك فقد شرط على نفسه أن يأخذ أقوال أصحاب الفرق من كتبهم، دون التعرُّض لنقدها أو تصحيحها.
فهل استطاع أبو الحسن الأشعريُّ أن يتحقَّق أنَّ ما أورده عن الفرق قد سلم من تلك العيوب التي ذكرها وعزم أن يتحرَّز منها، والتي انتقدها على غيره من المتحدِّثين والكتـَّاب بقوَّة وجرأة تستدعيان أن تجاب؟!! وهل استطاع الشهرستانيُّ أن يوفِّي بشرطه؟ وأن لا ينقل مقالات أهل الفرق إِلاَّ من كتبهم ومصادرهم؟! وأن يلتزم معها الحياد الكامل فلا يصوِّب ولا يخطِّئ ولا يرجِّح؟
فهم يضعون هذا المذهب وأتباعه في قفص الاتـِّهام أوَّلاً، ويحكمون عليهم بأنـَّهم مخطئون لأنـَّهم خوارج، وبعد ذلك قد يبحثون عن الأدلّـة، ولكن لإثبات هذه التهمة، لا لمعرفة الحقيقة.
وعندما يتقدَّم الإبـَاضِـيَّة بعرض عقائدهم وآرائهم والأدلَّة الشرعيَّة التي استندوا إليها، ويـبـيِّنون سيرتهم وسلوكهم، يعتبر ذلك منهم كلاماً في موقف الدفاع، لا يجوز على القاضي الذكيِّ، فهو لا يسمعه، ولا ينظر فيه، وإذا استمع إليه فلكي يلتقط جملاً تعَزِّزُ التهمة، وقد يحرِّفها قليلا حَـتَّى تكون صالحة كدليل للإثبات.
وقد يعرض الإبـَاضِـيَّة عقيدة أو رأياً لهم بأدلَّته وبراهينه وهو في نفس الأمر يوافق عقيدة القاضي. ولكن القاضي يصرُّ مع ذلك أنَّ القوم مخطئون وأنَّ ما يقولونه إِنـَّمَا هو كلام للدفاع؛ ثُمَّ يحكم برفض الدفاع، وإثبات الدعوى، لا لشيء إِلاَّ لأنـَّهم حسبما بلغ إلى علمه (خوارج)، وحـتَّى عندما يقول الإبـَاضِـيَّة عن عقيدة أو رأي: إنـَّه عندهم كفر وخروج من الملَّة، فإنَّ هذا القول لا يقبل منهم، ويستمرُّ إثباته لهم ومحاسبتهم عليه. وقد يبرأون من رجل ومن أعماله وأقواله مِمـَّن لا ينتمي إليهم ولكن يقال لهم أيضًا: بل هذا الرجل من أئمَّتكم، ولو أنكرتم ذلك.
والمشكلة أنَّ رافعي الاتـِّهام لا يحاولون أبدا أن يبحثوا عن الحقيقة، ولا أن يرجعوا في تحقيقهم إلى مصادر الإبـَاضِـيَّة، وإنـَّما يتناقلون التهمة بنصِّها من جيل إلى جيل دون اعتبار لصراخ المتـَّهم الموجود في القفص، أو اهتمام به أو سماع لدفاعه.
وفي عصرنا هذا اهتمَّ عدد من كتـَّاب المقالات، ومحقِّقي الكتب: بشؤون الفرق الإسلاميَّة، وعَرض بعضهم فيما عرض للإبـَاضِـيَّة، وبين يديه كتب قيِّمة لهم يستطيع أن يتَّخذها مراجع يستقي منها أقوالهم ويستطيع أن يعرف فيها أصول ديانتهم وفروعها ويصحِّح ــ متأكِّداً ــ ما يجده من أخطاء عنهم في غيرها، وإلى جانبه علماء فضلاء منهم في إمكانهم أن ييسِّروا له الوصول إلى الحقِّ وَلَكِـنَّهُ في الواقع يزورُّ عن ذلك، ولا يرجع إلى تلك الكتب، ولا إلى أولئك العلماء، وإنـَّما يعود بالتفتيش إلى كتب ليست لهم وإنـَّما كتبها غيرهم عنهم في ظروف مجهولة، وهي غالبا لا تسلم من الأخطاء عن حسن النـيَّة إن سلمت من سوء النـيَّة، بل هي عرضة للأخطاء من عدَّة جوانب منها:
1- عدم توافر النزاهة الكاملة في الكتـَّاب.
2- سيطرة آراء معيَّنة على الكاتب تجعله غير مستعدٍّ لفهم غيرها، أو حَـتَّى مجرَّد مناقشتها.
3- كفاءة الدراسة والتحقيق قد لا تكون عنده بالدرجة التي يفرِّق بها بين الصواب والخطإ.
4- المصادر التي يستقي منها ويعتمد عليها ــ سواء كانت كتبا أم بشراً ــ قد تكون مغرضة، وقد تكون مستغلَّة وقد تكون جاهلة لحقيقة ما تـثبت.
5- وسائل الاتـِّصال التي تساعد على البحث والوصول إلى الحقيقة كالاتـِّصال الشخصيِّ المباشر كانت غير سهلة ولا ميسورة.
6- النفرة بين أتباع المذاهب المختلفة وسوء الظنِّ، وشدَّة التعصُّب، وتمسُّك كلٍّ بما عنده، والحكم مسبقاً على الآخرين بالخطإ والضَّلال؛ هذه العراقيل كلُّـها أو بعضها تجعل الوصول إلى الحقيقة عسيرا حَـتَّى بالنسبة للنزيه الحريص على الحقِّ، فإنَّ سوء الظنِّ يلقي ظلالا من الشكِّ عليه لا تمكِّنه من الإطلاع.
7- الإشاعات الكاذبة، والدعايات المضلِّلة التي تنطلق عن دوافع سياسيَّة غالباً، فتصل إلى ناس موثوق بهم، فتجري على ألسنتهم أو أقلامهم، فتتلقَّفها الآذان دون معرفة مصدرها الحقيقيِّ، والدوافع السياسيَّة الماكرة إلى الإيحاء بها.
هذه بعض الجوانب التي كانت تؤثِّر على الكتـَّاب الأقدمين، وقد انتبه إلـيـها بعضهم، وعرف مدى تأثيرها على المؤلِّفين، وما يتسبَّب عنها من أباطيل تلتصق بطوائف من المسلمين هم منها أبرياء.
يقول أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعريُّ( ) ما يلي:
– مقالات الإسلاميين طبعة النهضة 1369هـ ص33.
«ورأيت الناس في حكاية ما يحكون من ذكر المقالات، ويصنَّفون في النحل والديانات، من بين مقصِّر فيما يحكيه، وغالط فيما يذكره من قول مخالفيه، ومن بين معتمدٍ للكذب في الحكاية، إرادة التشنيع على من يخالفه، ومن بين تارك للتقصِّي لروايته فيما يرويه، من اختلاف المختلفين، ومن بين من يضيف إلى قول مخالفيه ما يظنُّ أنَّ الحجَّة تلزمهم به». فأنت ترى أن أبا الحسن الأشعريَّ ــ وهو من أوائل من كتب في هذا الموضوع ــ قد انتقد عدَّة عيوب في أولئك الذين يتصدَّون للحديث عن مخالفيـهم، كالتقصير في التحقيق، واعتماد الكذب والغلط وعدم التقصِّي في البحث، والزيادة في الأقوال لإلزام المخالفين الحجَّة.
أمـَّا الشهرستانيُّ في كتـَابه (الملل والنحل) فهو لم يذكر نقداً بهذه التفاصيل وإنـَّما أشار إليها من طرف خفيٍّ، فقد قال ما يلي( ):
«وشرطي على نفسي أن أورد مذهب كلِّ فرقة على ما وجدته في كـتبـهم، ومن غير تعصُّب لهم، ولا كره عليهم، دون أن أبيـِّن صحيحه من فاسده، وأعيـِّن حقَّه من باطله».
وهذا الكلام يشعر أنَّ الشهرستانيَّ رأى كما رأى الأشعريُّ من قبله، عدم التحقيق فيما يقال عن الفرق، ولذلك فقد شرط على نفسه أن يأخذ أقوال أصحاب الفرق من كتبهم، دون التعرُّض لنقدها أو تصحيحها.
فهل استطاع أبو الحسن الأشعريُّ أن يتحقَّق أنَّ ما أورده عن الفرق قد سلم من تلك العيوب التي ذكرها وعزم أن يتحرَّز منها، والتي انتقدها على غيره من المتحدِّثين والكتـَّاب بقوَّة وجرأة تستدعيان أن تجاب؟!! وهل استطاع الشهرستانيُّ أن يوفِّي بشرطه؟ وأن لا ينقل مقالات أهل الفرق إِلاَّ من كتبهم ومصادرهم؟! وأن يلتزم معها الحياد الكامل فلا يصوِّب ولا يخطِّئ ولا يرجِّح؟
ذلك ما سوف نراه في الفصول الآتية إن شاء الله تعالى، ونحن نرافق هؤلاء الأئمـَّة العظام وغيرهم في رحلة علميـَّة، نستمع فيها إليهم ونقرأ لهم، ونأخذ عنهم، ونسترشدهم في الوصول إلى الحقِّ الذي هو غاية الجميع.
الملل، والنحل طبعة 1368 هـ ص 60 من الجزء الأول.