الحمدّ لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين.
أما بعد، فقد ورد في مسند الإمام أحمد وفي جامع الترمذيِّ من طريق سليمانَ بن يسار قال: قام فينا عمرُ بن الخطابِ في الجابيةِ فقال: قامَ فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أوصيكم بأصحابي ثمّ الذين يلونهم ثمّ الذين يلونهم ثمّ يفشوا الكذب ويظهر فيهم السِّمنُ يشهدونَ ولا يستشهدون وينذرون ولا يفون فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ولا يخلونَّ رجلٌ بامرأةٍ إلا كان الشيطان ثالثهما" ينصحنا الرسول صلى الله عليه وسلّم في هذا الحديث بالتمسك بما كان عليه أصحابه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم أي الصحابة والتابعين وأتباع التابعين هم أهل القرون الثلاثة الأولى قرن الصحابة أي المائة الأولى ثمّ قرن التابعين أي المائة الثانية ثم قرن أتباع التابعين أي المائة الثالثة، هؤلاء الرسول شهد لهم بالفضل لما خصّوا به من بين أمته، فاتباعهم أمر عظيم لأنّ من اتبع أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم والتابعين لهم بإحسان فهو من الفائزين، من اقتدى بهم الاقتداء التّام فهو من الفائزين لا يخاف عليه أن يكون من الكافرين يوم القيامة من حيث معتقده ومن حيث عمله أيضاً.
فمن ثبت على ذلك من حيث المعتقد لا بدّ أن يدخل الجنة أما من حيث عمله فإن قصر وكان تقصيره عمّا كانوا عليه، من إضاعة بعض الفرائض وارتكاب بعض الكبائر فهذا أمره يعود إلى الله سبحانه و تعالى إن شاء يعاقبه وإن شاء يسامحه، ولكنه مضمون له النجاة من الخلود الأبدي في النار، فمن هنا يجب الاعتناء بالاعتقاد أكثر من غيره لأن الاعتقاد عليه صحة الإيمان والإسلام، ومن لم يصحَّ اعتقاده لا يصحّ له إيمان ولا إسلام.
ثم ذكر وبيّن لنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنه بعد هذه القرون الثلاثة "يفشو الكذب" أي يتركون الاحتياط في كلامهم على خلاف ما كان عليه أولئك أهل القرون الثلاثة الفاضلة وذكر أنهم يهتمون للأكل حتى "يظهر فيهم السّمن" أي من الأكل، السمن منه مذموم ومنه ما هو غير مذموم، السمن الذي يكون من كثرة الشّره بأكل الطعام هذا مذموم لا يحبه الله أما السمن الذي يكون من المرض من البلغم هذا ليس بمذموم لأنه ليس من كثرة الأكل لإشباع شهوة البطن بمعنى يظهر فيهم السمن أي يكثر فيهم المهتمون الشرهون على المآكل اللذيذة وهذا شىء مذموم.
الأنبياء كلُّهم والأولياء معروفٌ عنهم أنهم يحرصون على قلة الأكل أي بحيث لا تنضرّ أجسادهم لأنّ قلة الأكل المؤدية إلى ضرر الجسم حرام، أما القدر الذي لا يؤدي إلى ضرر الجسم فهو محمود عند الله، هذه سيرة الأنبياء والصالحين، سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كان من أكبر العاملين بهذه الخصلة الشريفة كان يقول عليه الصلاة والسلام: "ما ملأ ابن ءادم وعاءً شرّاً من بطنه بحسب ابن ءادم لقيمات (أي لا تتجاوز العشرة) يقمن صلبه (أي تحفظه من سقوط قوته) فإن كان ولا بدّ فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس".
وذكر أيضاً أنّ ممن يأتي بعد القرون الثلاثة الأولى يكثر فيهم من ينذرون ولا يفون بنذورهم، النذر الذي مدح الله تعالى الوفاء به هو النذر الذي يكون تقرباً إلى الله من غير تعليق بشىءٍ أو معلقاً بشىءٍ من الأمور الجائزة ليشكر الله تعالى على هذه النعمة التي يعلق النذر بحصولها، هذان الصنفان من النذر محمودان مرغوبان في شرع الله وفيهما ثواب، الصنف الأول هو الذي يقول لله عليّ أن أصلي كذا من الركعات من النوافل، لله عليّ أن أصوم كذا من صيام النفل، والثاني هو أن يقول الرجل إن شفا الله مريضي فعليّ كذا من صدقة أو صيام أو صلاة تطوع أو نحو ذلك من المبرات.
وفي هذين الصنفين من النذر أجر للناذر على نذره وعلى وفائه بالنذر.
أما النذر الذي لا يحبه الله فهو النذر عند الغضب في حال مشاجرة مع شخص يقول الشخص إن لم يكن الأمر كما ذكرت فعليّ نذر كذا وكذا، نصرة لنفسه وما أشبه ذلك هذا يقال له نذر اللجاج ما فيه ثواب وهو مكروه مع ذلك يطالب الشخص أحد أمرين إمّا أن يفي بما نذر وإما أن يكفّر كفّارة يمين.
أما إن قال الشخص لله عليّ أن أذبح بقرةً أو خروفاً هذا يقال له نذر التبرّر أي طلب البر.
والناذر ليس له أن يأكل من نذره بالمرة ولا يطعم أولاده الأطفال ولا والديه الفقيرين اللذين تحت انفاقه ليس له أن يطعم إلا الناس الغرباء وأقرباءه الذين ليس لهم عليه نفقة كإخوته البالغين.
ثم قال الرسول في ذمّ من يأتي بعد هؤلاء القرون الثلاثة "يشهدون ولا يستشهدون" معناه قبل أن يطلبوا للشهادة عند الحاكم هم يتسرّعون فيشهدون، الذي يشهد لإنسان له حقٌ عند الحاكمِ حتى يستوفيَ بهذه الشهادةِ حقه ينتظر أن يطلب للشهادة لأنه إن تسرّع قد يكون غيّر الحقيقة، لأنّ صاحب الحقّ قد يكون استوفى حقّه باطناً في زمن من الأزمنة، ثمّ مع ذلك يرفع دعوى كاذبةً ويكون قد استوفى حقه من الشخص المديون، فهذا الذي يتسرع بشهادته يكون عوناً لهؤلاء النّاس الذين يدّعون بغير حق.
ثمّ قال "فمن أراد بحبوحة الجنةِ فليلزم الجماعة" المعنى من أراد أن يكون من أهل الجنّة الذين يسكنون بحبوحتها فلا يفارق الجماعة، المراد بالجماعة جمهور الأمّةِ لأن جمهور الأمةِ في اعتقادِهم دائما على الصوابِ، هذه الكلمة الشائعة على ألسنةِ المسلمين سلفهِم وخلفهِم خواصّهِم وعوامّهِم، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، هذه الكلمة المأثورة التي أثرت عن السلف فبقيت في الخلف ولا تزال باقيةً ما بقيَ المسلمون على وجهِ الأرضِ أصلُهَا من صاحبِ الشرع صلى الله عليه وسلم ثمّ تلقاها المسلمون من الصحابة فمن دونهم إلى يومنا هذا وهي ذكرٌ من الأذكار المأثورةِ هذه عين عقيدةِ أهل الحقِّ لأنها تثبت وحدانية الله تعالى.
ثم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم النهي عن خلوة رجل بامرأة أجنبيةٍ أي ليست محرماً له.
فبيّن لنا أنَّ هذه وسيلةٌ قوية للشيطان في إيقاع الفساد بين الرجل والمرأة، هذه الخلوة تساعد الشيطان على جرّهما للمعصية، للفاحشةِ أو لما دون الفاحشة، الرسول لا ينهى عن شىءٍ إلا لحكمةٍ ولكن هذه الحكمة قد يدركها الناس وقد لا يدركونها وقد حصل مرةً حادثةٌ في بعض البلاد وهي أنّ رجلاً من التجار كان يخرج من بيته ويترك ابن أخٍ له في البيت فلا يكون هناك إلا زوجته وهذا الشاب.
ثمّ ذات يوم رآهما وحدهما على حالة سيئة ففقد رشده فقطع أذن ابن أخيه فصار على ابن أخيه عارٌ مستمر طول حياته يرونه الناس فيقولون هذا قطعت أذنه لأجل كذا… فهذه الحادثة حصلت من أثر الاهمال اهمال العمل بشريعة الله، فلحكمة حرّم الله خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية.
https://www.sunna.info/Lessons/islam_974.html