إصلاح ذات البين في السنة النبوية للشيخ عثمان عيسي 2024.

إصلاح ذات البين في السنة النبوية

لقد تَنَوَّعت ميادينُ الإصلاح في الشَّريعة الإسلاميَّةِ السَّمْحَةِ، من إصلاحِ النَّفسِ باطنًا بالإيمان الصَّحيحِ، والمعتقدِ السليمِ، وتقويمِ السُّلوكِ والخُلُقِ ظاهرًا كما جاء في عنوانِ الرِّسالة النَّبويَّة وشعارِها: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلاَقِ»، وتقويمِ المنْطِقِ بميزان البَيَانِ حِفاظًا على اللِّسانِ، إذِ الكلمةُ أصلُ عقيدةِ أهلِ الإيمان، فَأَطْيَبُها كلمةُ التَّوحيد، وأخْبَثُهَا كلمةُ الشِّرك، وقد رَاعَتِ الشَّريعةُ إصلاحَ الفردِ والمجتمعِ على حدٍّ سواء، إذْ لا مجتمعَ للنَّاس إلاَّ بمجموع أفراده، وإنَّ صلاحَ المجتمع مَبْنِيٌّ على صلاح الفرد وأهليَّتِه لِتَحَمُّلِ الأمانة وأدائها، ولا مجتمعَ صالحاً إلاَّ بتوحيدٍ خالصٍ من أفراده لربِّ العالمين، وأخوةٍ صادقةٍ لا يُكَدِّرُ صفوَها شيءٌ، قائمةٍ على أساس المودَّة والرَّحمة والتَّناصح والتَّناصر.
هذا، وقدِ اهتَمَّ الإسلامُ بالإصلاح اهتمامًا بالغًا، وخاصَّةً فيما يتعلَّق بِذَاتِ بَيْنِ المسلمين، فكان في حدِّ ذاتِه مقصدًا من مقاصده الكبرى، وغايةً من غاياته المثلى، جسَّد هذا الإصلاحَ النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في واقع حياته، وبِهَدْيِه القَوْلِيِّ والعَمَلِيِّ، مع الصَّحابة الكرام ي فحرص كلَّ الحرصِ على إيصالِ كلِّ نفعٍ حسيٍّ ومعنويٍّ لهم، ودفعِ كلِّ ضَرَرٍ وأذى عنهم، فنهاهم عن الاختلاف والتَّفرُّق والتَّشَتُّتِ، وأَمَرَهم بالبعد عن كلِّ أسباب الخصومة والعداوة والبغضاء، وقَطْعِ دابرِ الهجران والكفران، بأنواع شتَّى وطرقٍ متنوِّعة فاضتْ بها السُّنَّة النَّبويّةُ العَطِرَةُ، وذلك كلُّه رحمةً منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورأفةً بالخلق، واستجابةً للخالقِ جلَّ وعلا الآمرِ بالاجتماعِ والوِفاقِ.
ولما كان المرءُ معرَّضًا للفتنِ الظَّاهرةِ والباطنةِ، ومبتَلَى بما يلقاهُ في المخالطةِ والمعاشَرةِ من البَغيِ والأثَرَةِ، ولمَّا كانتْ طبيعةُ الإنسانِ كما خُلق، وتركيبةُ نفسِه كما فُطر، تقتضي ـ من حيثُ الواقعُ ـ حبَّهُ الاستئثارَ بالأشياء، وانفرادَه بها عن غيره، لم يُغفلِ الإسلامُ هذا الجانبَ من طبيعةِ النَّفسِ البشريَّةِ، بل راعى في معالجتها ومداواتها النّقصَ الموجودَ فيها، والضّعفَ المتمكّنَ منها؛ ضعفٌ من آثاره: سرعةُ الانفعال، وشدّةُ التّأثُّر، واضطرابٌ عند زوال ما تَلَذُّهُ النفسُ وتشتَهِيهِ، أو تَوَهُّمِ ذهابِهِ وفَواتِه، وما يقع لها من قِلَّة حلمٍ مع الغَرِيمِ منَ المعَاشَرين والمشارَكين، ـ مما لا يكاد يَسْلَمُ منه أحدٌ ممَّن لاَبَسَ النَّاسَ وخالطهم باستثناءِ قليلٍ من المؤمنين حقًّا، والعاملين الصَّالحات صِدقًا ـ ، كما قال جلَّ وعلا: ﴿وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ﴾ [ص:24].
وَمَرَدُّ ذلك إلى الشُّحِّ المُطَاعِ، والهوى المتَّبَعِ، كما قال جلَّ وعلا: ﴿وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ﴾ [النساء:128].

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «الشُّحُّ: هَوَاهُ في الشَّيء يحرص عليه» (1).
فلمَّا يَرْسُمُ المرءُ لنفسه حقوقًا يحرص عليها، يريد استيفاءَها كاملةً غيرَ منقوصةٍ، ويحمي لجنابِها حِمًى يُعَادِي مَن تعدَّاهَا وتجاوزَها، ولا يسامح فيها ولا يتنازل عنها يقعُ الخلَلُ، ويَنْجُمُ الزَّلَلُ، فتَبْدُو حينئذ النَّفسُ خائفةً، قد هَلَعَ صاحبُها وجَزَعَ إذا مسَّه الشَّرُّ، واجْتَحَفَ مُستَأثِرًا ومَنَع إذا مسَّه الخيرُ، يبحث عن أوَّلِ فُرصةٍ لقطْعِ حَبْلِ الوِصَالِ، بذريعةِ الاختلاف مع غيره في نَفِيسٍ غالٍ أو في عِقال، أو بسببِ تَأَثُّرٍ بسوءِ أقوالٍ أو فِعال… ومن لوازم ذلك؛ وقوعُ التَّعادِي والتَّباغضِ والتَّدابرِ والتَّنافرِ والتَّقاطعِ، بل والتَّقاتل بين النَّاس، وقد حُرِّم عليهم ونُهوا عنه؛ فيضيق حالُهم، ويَنْكَسِف بالُهم.
ولم تَخْلُ سنَّةُ نبيِّنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ من دعوةٍ إلى الإصلاح وحثٍّ عليه، وبيانٍ لوسائله وسُبُلِهِ، ومن تَنَسَّمَ وحيَ السُّنَّةِ العَطِرَةِ، وتَدَثَّرَ بِدثَارِهَا، وأعمل الفكرَ في استنباط الأحكامِ منها والحِكَمِ، واستخراجِ الإرشادات والقِيَمِ، والْتِمَاسِ المواعظِ والعِبَرِ، وَفْقَ منهجٍ دقيقٍ سليمٍ، وتأصيلٍ راسخ قويم، أدرك ذلك بيقين، فقد جاء الأمر بإصلاح ذات بين المؤمنين، ورأب صَدْعِهِمْ، وسلِّ سَخَائِم قلوبهم، والتَّأليفِ بينهم، وَلَمِّ شعثِهم، وجمعِ شملِهم، وتوحيدِ كلمتِهم، هذا كلُّه ممَّا قام به النَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ حقَّ القيام، مُسْتَهْدِيًا اللهَ جلَّ في علاه، ومستعينًا بربِّه ومَوْلاَهُ، مع عِظَمِ الرِّسالةِ، وثِقَلِ الأمانةِ، أمانةِ الهدايةِ والبيان، والمجاهدةِ باللِّسانِ والسِّنان، أمانةِ تربيةِ الصَّحابةِ التَّربيةَ الإيمانيّةَ، ورعايةِ شؤونهم حقَّ الرِّعاية، قال اللهُ جلَّ وعَلا: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾ [الأحزاب:6] قال مجاهد: «هُو أبٌ لهم»(2)، ومصداقُ ذلك قولُ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الوَالِدِ»(3) الحديث.
أي: «في الشَّفقة والحُنُوِّ… وفي تعليم ما لا بُدَّ منه»(4).

ومن شأنِ المصْلِحِ أنْ يقومَ بالإصلاح بنفسه، ويقوِّمَ بالإصلاح غيرَه، ولا يُوكِلُ مُهِمَّةَ ذلك لمن خلفَه، أو يتَّكِئُ للقيام بهذا الواجبِ على من بعدَه، بل يسعى بنفسِه، بشدِّة ساقَيْهِ وذراعَيْهِ، لإصلاح الدَّانِي والقاصِي، سعيًا مدفوعًا بإخلاصٍ للهِ تعالى وإرادةٍ لوجهِهِ الكريم، ورغبةٍ في ثوابه، وهمَّةٍ ونشاطٍ واندفاعٍ بحقٍّ وللحقِّ، وسعيٍ بحَزْمٍ على بصيرة، وقد عبَّر النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديثِ الصَّدقاتِ عن شيء من ذلك فقال «…وَتَسْعَى بِشِدَّةِ سَاقَيْكَ إِلَى اللَّهْفَانِ المُسْتَغِيثِ، وَتَرْفَعُ بِشِدَّةِ ذِرَاعَيْكَ مَعَ الضَّعِيفِ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الصَّدَقَةِ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ…»(5).
والمرْءُ ـ عادَةً ـ يستغيثُ بخاصَّتِه وأهل ثِقَتِه، ويرجو الإعانةَ منهم، ومن أمثالِ العربِ: «إلى أُمِّه يَلْهَفُ اللَّهْفانُ»، والَّذي يريد الإصلاحَ ويَصْبُو إليه، يَنْتَظِرُ مثلَ هذه الإغاثةِ ويَأْمَلُها من أصحابها الصَّالحين المُصلِحين، من العلماء الرَّبَّانِيِّينَ، وطلبةِ العلمِ الموَثَّقينَ، الّذين يَدْعُون الخلقَ إلى التَّوحيد الخالص، ويُبدِّدُون ظلماتِ الشِّرك والوثنيَّة، ويربُّون النَّاسَ على السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ المحمَّديَّةِ، ويمحُون آثارَ المحدثات البدعيَّةِ، حاملين رايةَ الإصلاح خَفَّاقَةً شَامِخَةً، راجين من الله تعالى لدعوتهم النَّجاحَ، وللعبادِ جميعًا الفلاحَ.
ومن هذا الإصلاحِ المرجُوِّ، إصلاحُ ذاتِ البَيْنِ، وهو جُهْدٌ وعملٌ لا غِنَى لجماعة المسلمين عنه، فحاجتُهم إليه وإلى من يقُوم به من المخلِصين، شيءٌ يُدْرِكُه مَن يعلم مقدارَ الثَّلْمِ الذي يُحدِثُه الفسادُ والإفسادُ بين المسلمين، ويعلمُ مقدارَ الشَّرخِ الكائنِ في الأمَّة بسبب الأدواء والأهواء المفرِّقَةِ لها، والقاضيةِ عليها وعلى وحْدَتِها، من أسباب التَّنازع ومُوَرِّثَاتِ الفَشَلِ وذهابِ الهيبةِ، مِمَّا يُوهِنُ أمرَ الأمَّةِ في الدَّاخل، ويوهنُ شأنَها في الخارج مع غيرها من الأمَمِ الأخرى، قال الله جلَّ وعلا: ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال:46].
والمخلصُ منِ المصْلِحين يَمْتَثِلُ أمرَ الله ورسولِه في إصلاحه للمجتمع، وإصلاحِ ذاتِ بَيْنِ المسلمين، لا يَخرُجُ عن سُنَنِ التَّغيِيرِ الشَّرعيَّةِ، ويُوَظِّفُ ما في يده من وسائلَ دعويَّةٍ(6) لهذا المقْصَدِ النَّبيلِ، ويستحضرُ معيَّةَ الله الخاصَّةِ لعباده الصَّابرين على المأمور والمحظورِ والمقْدُورِ، فهي معيَّةٌ مُتَضَمِّنَةٌ إعانةَ الله جلَّ وعلا لمن حقَّقَ طاعتَه وطاعةَ رسولِه ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
هذا، وإنَّ أَوْلَى النَّاس بإصلاح ذات بَيْنِهم؛ الوالدان؛ فيحرِصُ المرءُ على أن يكونَ واصلاً لوالديه، مُوصِلاً لأحدِهما بالآخر، وهكذا الأمرُ مع الزَّوجين، والأقاربِ من العَصَبَةِ وذوي الأرحام، والجيرانِ لعِظَمِ حقِّهم في الإسلام، وسائرِ المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات…
وإصلاحُ ذات البَيْنِ، يقتضي ـ في كثير من الأحيان ـ تَنَازُلاً منَ المرءِ، فيما ليس بواجبٍ ديانةً، مطاوعةً منه لإخوانِه، مع سِعَةِ صدْرٍ وحُسْنِ ظَنٍّ، ليرى ثمرةَ إصلاحِه في الدُّنيا قبل الآخرة، ومن أعظم ثمراتها السُّؤددُ بحقٍّ، إذِ السُّؤددُ والرِّفعةُ إنَّما تكون بالعلمِ والعملِ والتَّعليمِ والإصلاحِ(7) والصَّبرِ والثَّباتِ، وقد جَعَلَ النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ من فضائل الحسنِ بن علي ـ رضي الله عنهما ـ إصلاحَه بين أهل العراقوأهل الشَّام، ومَدَحَه على ذلك وأثنى عليه(8) ممَّا يدلُّ على أنَّ الإصلاحَ بينهما ممَّا يحبُّه ويرضى عنه ويحمدُه اللهُ ورسولُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، مع أنَّ الحسنَ ـ رضي الله عنه ـ نَزَلَ عن الأمر وسلَّمه إلى معاويةَ بنِ أبي سفيان ـ رضي الله عنه ـ عام 41 ﻫ ، فَسُمِّيَ عام الجماعة لاجتماعِ النَّاسِ على معاوية ـ رضي الله عته ـ، واجتماعِ كلمةِ المسلمين، وزوالِ الفتنةِ بينهم.
فكان إصلاحُ الحسنِ بنِ عليٍّ ـ رضي الله عنهما ـ بالتَّنازل عن الأمرِ ومصالحةِ غيره، ـ وما دون شأنِ الوِلاية أَهْوَنُ وأيْسَرُ ـ، فنالَ ـ رضي الله عنه ـ بتنازُله هذا ـ سيَادَةً إلى سيادَتِه الَّتي كان عليها، قال رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إِنَّ ابْنِى هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ»(9)، وعند أحمد: «إِنَّ ابْنِى هَذَا سَيِّدٌ، وَسَيُصْلِحُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ»(10).
والملاحَظُ في هذا الحديث أمرانِ:
1 ـ ذكرُ النَّبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لسِيادة الحَسنِ ـ رضي الله عنه ـ وهو لا يَزَالُ طِفْلاً صغيرًا يلعبُ، قال الْحَسَنُ: (وهو البصري)(11): «وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَخْطُبُ جَاءَ الْحَسَنُ(12) فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ،…» الحديث.
2 ـ إيماءُ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ للعلَّةِ وهي الإصلاحُ بين الطَّائفتين العظيمتين؛ فَعُلِمَ منه أنَّ إصلاحَ ذاتِ بَيْنِ المسلمين سببٌ في السُّؤددِ والرِّفعةِ، وأنَّه من الأعمال التي يحبُّها اللهُ ورسولُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأنَّ فيه الخيرَ كلَّ الخيرِ، كما قال الله جلَّ وعلا: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ [النساء:128]، فحصل المقصودُ وبالله التَّوفيق.
قال الحافظ ابنُ حجر في «الفتح» (13/84):
«قال المهلَّبُ: الحديثُ دالٌّ على أنَّ السِّيادةَ إنَّما يستحقُّها من يَنْتَفِعُ به النَّاسُ، لكونِه علَّق السِّيادةَ بالإصلاحِ» اهـ.
وأيُّ منفعةٍ أرجى للمسلمين من حَقْنِ دمائِهم، وتأمينِ رَوْعَاتِهم، والحفاظِ على ضروريَّاتِ معاشِهم، ومَنْ حقَّق لهم ذلك ـ ولو بالتَّنازل عن الأمر ـ كان سَيِّدًا عند الخلْقِ، وأحبَّهم عند الخالِقِ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أَحَبُّ النَّاسِ إلى اللهِ تعالى أَنْفَعُهُم لِلنَّاسِ…»(13) الحديث.
ولهذا كان إصلاحُ ذاتِ بَيْنِ المسلمين وصلاحُ حالِهم، أفضلَ من درجةِ الصِّيام والصَّلاة والصَّدقة،وذلك لما فيه من حُسْنِ المعاشرة والمناصحةِ والتَّعاون على البِرِّ والتَّقوى، وكان من أفضلِ الصَّدقاتِ التي يحبُّ اللهُ ورسولُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مَوضعَها، ومن أنفعِ التِّجارةِ بين العبدِ وربِّه، كما قال رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي أيُّوبَ ـ رضي الله عنه ـ:«أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى تِجَارَةٍ؟»، قال: بلى؛ قال: «صِلْ بَيْنَ النَّاسِ إِذَا تَفَاسَدُوا وَقَرِّبْ بَينَهُم إِذَا تَبَاعَدُوا»(14).
وصِلَةُ النَّاسِ بعضِهم ببعضٍ إذا تَفَاسَدُوا، والتَّقرِيبُ بينهم ـ بالشَّرعِ الحنيفِ ـ إذا تَبَاعدوا، يستدعي وجودَ قَصْدٍ سليمٍ، ونيَّةٍ صالحةٍ صادقةٍ، إذْ لا يُوفَّق للإصلاح بين النَّاس إلاَّ من صَفَتْ سَرِيرَتُهُ، وحَسُنَتْ طَويَّتُه، قال اللهُ جلَّ وعلا في الصُّلحِ بين الزَّوجين: ﴿إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً﴾ [النساء:35].
قال ابنُ عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ:﴿إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً﴾: «هُما الحَكَمان»(15).
وقال مجاهد: «أمَا إنَّه ليسَ بالرَّجلِ والمرأةِ، ولكنَّه الحَكَمان».
ومعنى الإرادةِ المذكورةِ في الآية: «خلوصُ نِيَّتِهِمَا (المصْلِحَيْن) لصَلاَحِ الحالِ بين الزَّوجين»(16).
وهذا يدلُّ على أنَّ صَلاحَ نِيَّةِ الحَكَمَيْنِ له أثرٌ في التَّوفيق بين الزَّوجين، وقد وَجَدْتُ كلامًا للشَّيخ محمَّد الطَّاهر بنِ عاشُور في بيانِ وتقريرِ هذا المعنى، قال ـ رحمهُ الله ـ: «وقولُه تعالى: ﴿إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً﴾: الظَّاهرُ أنَّه عائدٌ إلى الحَكَمَيْنِ؛ لأنَّهما المسُوقُ لهما الكلامُ، واقتصَرَ على إرادةِ الإصلاحِ؛ لأنَّها الّتي يجبُ أن تكونَ المقصدُ لوُلاَةِ الأمور والحَكَميْنِ، فواجبُ الحَكَميْنِ أن ينظرَا في أمرِ الزَّوجين نظرًا مُنْبَعِثًا عن نيَّةِ الإصلاح، فإنْ تَيَسَّرَ الإصلاحُ فذلك، وإلاَّ صارَا إلى التَّفريقِ، وقد وعدَهُما اللهُ بأنْ يُوَفِّقَ بينهما إذا نَوَيَا الإصلاحَ، ومعنى التَّوفيقِ بينهما؛ إرشادُهما إلى مصادفةِ الحقِّ والواقعِ،…»(17)اهـ.
هذا كلُّه في الإصلاح بين الزَّوجين، فكيف بالإصلاح بين النَّاسِ فيما هو أعظمُ شأنًا من بُضْعِ امرأةٍ! ـ كشأنِ الدِّماءِ ونحوِها ـ، فصلاحُ النِّيَّةِ في ذلك أَوْلَى وأَوْلَى، ولهذا لمَّا ناظرَ ابنُ عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ الخوراجَ، استدلَّ عليهم بهذه الآية الكريمة، وذلك في مسألة التَّحكيم المعروفةِ، فكان ممَّا قال ـ رضي الله عنه ـ:
«وفي المرأةِ وزوجِها: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا﴾[النساء:35]، فنشدتُكم باللهِ(18) حُكمَ الرِّجالِ في صلاحِ ذاتِ بينِهم وحقنِ دمائهم أفضلُ من حكمهم في بُضعِ امرأةٍ؟…»(19).
فإصلاحُ ذاتِ بَيْنِ المسلمين أكبرُ عندَ الله، وأعظمُ حرمةً من الإصلاح بين الزَّوجين؛ لأنَّ الإصلاحَ سببٌ لِلاعتصام بِحبلِ اللهِ وعدمِ التَّفَرُّقِ بين المسلمِين، كما أنَّ فسادَ ذَاتِ البَيْنِ ثُلْمَةٌ في الدِّينِ، قد سَمَّاه النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الحالِقَةَ الَّتي تحلِقُ الدِّينَ، فعَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ؟»؛ قَالُوا: بَلَى؛ قَالَ: «صَلاَحُ ذَاتِ البَيْنِ؛ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ البَيْنِ هِيَ الحَالِقَةُ»(20)، وقد جاء تفسيرُ الحالقةِ مرفوعًا من قول النَّبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ»(21).
قال البَاجِي: «قال الأَخْفَشُ: أصلُ الحَالِقَةِ من حَلَقَ الشَّعْرَ، وإذَا وَقَعَ الفَسَادُ بَيْنَ قومٍ مِنْ حَرْبٍ أَوْ تَبَاغُضٍ حَلَقَهُمْ عَنْ البِلَادِ؛ أَيْ: أَجْلَتْهُمْ وفَرَّقتْهُم حَتَّى يُخْلُوهَا، وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يُرِيدَ أَنَّهَا لَا تُبْقِي شَيْئًا مِنْ الحَسَنَاتِ حَتَّى يَذْهَبَ بِهَا كَمَا يَذْهَبُ الحَلْقُ بِالشَّعْرِ مِنْ الرَّأْسِ حَتَّى يَتْرُكَهُ عَارِيًا» اهـ(22).
فَعُلِمَ منَ الحديثِ أنَّ فسادَ ذاتِ الدِّين تحلق الدِّينَ وتهْلِكُه، وتسْتَأْصِلُه كما يَسْتَأْصِلُ الموسَى الشَّعْرَ، وذلك لكثرةِ ما يترتَّب عليه من الفساد والضَّغائنِ، وكثرةِ ما يُسَبِّب من العداواتِ، وتَشْتِيتِ القلوبِ وَوَهَنِ الأديانِ، وتسليطِ الأعداء وشَمَاتَةِ الحُسَّادِ، فلذلك صار مقابلُه ـ إصلاحُ ذات البَين ـ أفضلَ الصّدقاتِ(23).
ونَيْلُ درجةِ الصَّلاةِ والصِّيامِ والصَّدقةِ بإصلاحِ ذاتِ البَيْنِ، مَشروطٌ فيه قيامُه على العِلم والعدلِ المصحوبَيْن بالقصدِ الحَسنِ، قال شيخُ الإسلام ابنُ القيِّم: «فالصُّلحُ الجائزُ بين المسلمين هو الَّذي يُعْتَمَدُ فيه رِضَى اللهِ سُبحانه ورضَى الخصْمَيْنِ، فهذا أعْدَلُ الصُّلحِ وأحقُّه، وهو يَعْتَمِدُ العلمَ والعدلَ، فيكونُ المُصْلِحُ عالما بالوقائعِ، عارفًا بالواجبِ، قاصدًا للعدلِ، فدرجةُ هذا أفضلُ من درجةِ الصَّائم القائم…»(24)؛ وهذا سِرٌّ بَديعٌ في فقه الإصلاحِ، واللهُ الموفِّقُ لا ربَّ سِواه.
مقال للشيخ عثمان عيسي.
—-
(1) أخرجه الطبري وابن أبي حاتم في تفسيريهما بسند حسن.
انظر: «التفسير المختصر الصحيح» (ص114).

(2) أخرجه آدم بن أبي إياس في «تفسيره» بسند صحيح.
انظر: «التفسير المختصر الصحيح» (ص449).

(3) حسن: رواه أبو داود (8). ط/بيت الأفكار الدولية.
(4) «فيض القدير» للمُناوي (2/723).
(5) صحيح: رواه أحمد في «المسند» (رقم 21816). ط/بيت الأفكار الدولية.
(6) وهي وسائلُ تَوْقِيفِيَّةٌ لا تُستبدل بغيرها بزعم «المصلحة الدعوية»!
(7) انظر تأصيلاً نفيسًا في «نَيْلُ السُّؤدَدِ بالعلم»؛ للأخ الشيخ عبد المالك رمضاني في كتابه «سِتُّ دُرَرٍ من أصولِ أهل الأثر» (ص77)، طبعة منار السبيل/عام 1445هـ.
(8) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (1/194) و(3/556) بتصرُّف.
(9) أخرجه البخاري (2704) وغيره.
(10) في «المسند» (رقم20721). ط/بيت الأفكار الدولية.
(11) كما استظهر ذلك الحافظُ في «الفتح» (13/82 ـ 83).
(12) وعند البيهقي في «دلائل النبوة»: «…إذْ جاء الحسن ابنُ عليٍّ فصعدَ المنبرَ».
(13) حسن: رواه الأصبهاني عن عبد الله بن عمر ب.
انظر: «صحيح الترغيب والترهيب» (2/359/2623) و«السِّلسة الصَّحيحة»: (906).

(14) حسن لغيره: رواه البَزَّار، انظر: «صحيح التَّرغيب والتَّرهيب» (3/45/2818).
(15) أخرجه الطبري وابن أبي حاتم في تفسيريهما بسند حسن.
(16) «فتح القدير» للشوكاني (2/139).
(17) تفسير «التَّحرير والتَّنوير» (5/47).
(18) يقول هذا ابنُ عباس مخاطبًا الخوارج.
(19) أَثَرٌ صحيح، أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (10/157/18678)، وأخرج بعضَه أحمد في «المسند» (رقم656)، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (1/319)، والطبراني في «المعجم الكبير» (10/257/10598)، وغيرهم، قال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على «المسند»: إسناده حسن.
وانظر: «مناظرات السَّلفِ» (ص95) للشَّيخ سليم الهلالي.

(20) صحيح: رواه أبو داود (4919)، والترمذي (2509) ط/بيت الأفكار الدولية.
(21) حسن لغيره، انظر: «صحيح التَّرغيب والتَّرهيب» (3/44/تحت رقم 2814) و«غاية المرام» (414).
(22) «المنتقى» (4/291).
(23) «فيض القدير» (3/137) بتصرف.
(24) «إعلام الموقِّعين»: (1/109 ـ 110).

كيف يزداد العبد إيمانه بالله 2024.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، فبلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمة وجاهَدَ في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد:
فيا عباد الله، كلنا ينشد ويطلب بشدة أن يزداد إيمانه بالله ورسوله وأن تزداد تقواه لله عزَّ وجل، ولزيادة الإيمان وقوّة التقوى طرق عديدة، منها:
أن يتعلّم الإنسان سيرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ فإن علم الإنسان بسيرة رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – يزيد في الإيمان ويكون عبرة لاطلاع العبد على حكمة الله – عزَّ وجل – في تقديره وتشريعه؛ فإن الله تعالى بعث نبيّه محمدًا – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – خاتم النبيين وإمامهم وأفضلهم في أشرف بقاع الأرض في أم القرى ومقصد العالمين في أشرف أمة كانت على وجه الأرض كما قال الله عزَّ وجل: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران: 110]، فدعا صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى توحيد الله [«ثلاث عشرة سنة كلّها في مكة»](1 وحدث له في تلك المدّة من آيات الله تعالى ما حدث، فمن ذلك:
[«أن الله تعالى أسرى به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى إلى مسجد القدس»](2) [«ثم عرج به في تلك الليلة من الأرض إلى السماوات العلا بصحبة خير الملائكة الروح الأمين جبريل عليه السلام، فارتقى برسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – سماءً بعد سماء حتى بلغ سِدْرة المنتهى ووصل إلى مستوى سمع فيه صريف أقلام القضاء والتدبير، وفي تلك الليلة فرض الله عليه الصلوات الخمس فصلاهنّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث أمره ربه – عزَّ وجل – في الوقت الذي ارتضاه الله تعالى وكان أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين إلا المغرب فثلاث ركعات لتوتر صلاة النهار وبقي على ذلك ثلاث سنوات قبل الهجرة ولَمّا هاجر صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى المدينة زِيدَ في صلاة الظهر والعصر والعشاء على ركعتين ركعتين فصارت أربعًا للمقيمين ركعتين للمسافرين»](3) [«ولَمّا هاجرة النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – كان في السنة الأولى كان شرع الأذان للمسلمين والإقامة»](4) .
[«وفي السنة الثانية فرضت مقادير الزكاة وبينت الأنصباء»](5) [«وفي السنة الثانية أيضًا فرض صيام شهر رمضان»](6) [«وفي السنة التاسعة فرض الله الحج على الناس حج البيت مَن استطاع إليه سبيلاً»](7)حتى تَمّت أركان الإسلام الخمسة من غير نقص وقد أذِن الله تعالى لرسوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – بالقتال بعد الهجرة؛ حيث كان للإسلام دولة وللمسلمين قوّة .
[ففي رمضان من السنة الثانية كانت غزوة بدر الكبرى] حين خرج نبيّنا – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – بثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً من أصحابه لأخذ عِير قريش الذي توجه به أبو سفيان من الشام إلى مكة ولم يرد النبي – صلى الله عليه وسلم – في ذلك قتالاً فبعث أبو سفيان إلى أهل مكة يستصرخهم لإنقاذ عِيرهم فخرجوا بصناديدهم وكبرائهم ما بين تسعمائة وألف، قال الله عزَّ وجل: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [الأنفال: 47]، فجمع الله تعالى بين رسوله – صلى الله عليه وسلم – وبينهم على غير ميعاد فنصره الله عليهم وقتل منهم سبعين رجلاً من بينهم الكبراء والرؤساء وأسَرَ سبعين وكان في ذلك عِزّ للمسلمين وكسر لشوكة أعدائهم الكفار .
[وفي السنة الثالثة كانت غزوة أُحد] حين تجهّز مشركو قريش بنحو ثلاثة آلاف رجل ليأخذوا بالثأر من النبي صلى الله عليه وسلم، فلمّا علم النبي – صلى الله عليه وسلم – بهم خرج إليهم فقاتلهم بنحو سبعمائة من أصحابه وكان النصر للمسلمين حتى ولّى المشركون الأدبار إلا أن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – جعل رماة في ثنيّة الجبل يحمون ظهور المسلمين ولا يتركون مكانهم فلمّا رأوا المسلمين قد انتصروا وظنّوا أن المعركة قد انتهت تركوا هذا المكان فكَرّ فرسان من المشركين على المسلمين من خلفهم حين رأوا الثنيّة خالية فانتكس الأمر وصار كما قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِوالحث هو: القتل – ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 152] .
[وفي ربيع الأول من السنة الرابعة كانت غزوة بني النضير] وهم إحدى قبائل اليهود الثلاث الذين كانوا في المدينة وعاهدوا النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – حين قدمها مهاجرًا ولكنّهم نقضوا العهد فخرج إليهم النبي – صلى الله عليه وسلم – فتحصّنوا بحصونهم كما قال الله عزَّ وجل: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الحشر: 2]، وخرجوا منها أذلّة فنزل بعضهم في خيبر ونزل بعضهم في الشام .
[وفي شوال من السنة الخامسة كانت غزوة الأحزاب] الذين تحزّبوا على رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – من مشركي قريش وغيرهم بتحريض من اليهود الذين أرادوا أن يأخذوا بالثأر من النبي – صلى الله عليه وسلم – حين أجلاهم من المدينة فعسكر الأحزاب حول المدينة بنحو عشرة آلاف مقاتل فضرب النبي – صلى الله عليه وسلم – على المدينة الخندقَ من الناحية الشمالية فحماها الله – عزَّ وجل – من الأعداء وأرسَلَ الله عليهم ريحًا شرقية عظيمة باردة كما أخبر الله سبحانه في قوله تعالى: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾ [الأحزاب: 25] .
[وفي ذي القعدة من هذه السنة حاصَرَ النبي – صلى الله عليه وسلم – بني قريظة آخر قبائل اليهود في المدينة] فقتل رجالهم وسبى ذريتهم ونساءهم لنقضهم العهد الذي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وأورث الله نبيّه والمؤمنين أرضهم وديارهم وأموالهم كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾ [الأحزاب: 27] .
[وفي ذي القعدة من السنة السادسة كانت غزوة الحديبية التي كانت فيها بيعة الرضوان حين خرج النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – بنحو ألف وثلاثمائة رجل من أصحابه يريد العمرة فصدّه المشركون عن ذلك مع أن عادتهم ألا يصد أحدًا عن البيت ولكن للحمية الجاهلية صدّوا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأرسل إليهم النبي – صلى الله عليه وسلم – عثمان بن عفان ليفاوضهم فأُشيع أنه قد قُتل فبايع النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – أصحابه لقتال قريش وفي ذلك أنزل الله قوله تعالى: ﴿قَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾] [الفتح: 18-19] .
[وفي شهر محرّم من السنة السابعة كانت غزوة خيبر وهي حصون اليهود ومزارعهم في الحجاز؛ لأنهم نقضوا العهد فغزاهم النبي – صلى الله عليه وسلم – فيها لكونهم نقضوا العهد وحرضوا كفار قريش وغيرهم على قتال النبي صلى الله عليه وسلم، فحاصرهم النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى فتح الله عليه خيبر فغَنِمَ أرضها وقسمها بين المسلمين].
[وفي رمضان من السنة الثامنة كانت غزوة فتح مكة حين نقضت قريش العهد الذي بينها وبين النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – فخرج إليهم في نحو عشرة آلاف من أصحابه ففتح الله عليهم وطهّر أم القرى من الشرك وأهله ودخل الناس في دين الله أفواجًا] كما قال الله عزَّ وجل: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ [النصر: 1-3]، [غير أن هوازن وثقيفًا ظنوا أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد فرغ من قتال قريش ولا ناهية له فاجتمعوا له في حنين فخرج إليهم صلى الله عليه وسلم في شوال من السنة الثامنة لقتالهم في نحو اثني عشر ألفًا وأُعجب الناس بكثرتهم وقالوا لن نغلب اليوم من قِلّة فأراهم الله – عزَّ وجل – أن النصر من عنده تبارك وتعالى لا بسبب الكثرة وأنزل في ذلك قوله تعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ][التوبة: 25-26] .
[وفي السنة التاسعة من شهر رجب كانت غزوة تبوك حين بلغ النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – أن الروم قد جمعوا له يريدون غزْوَه فخرج إليهم النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – في نحو ثلاثين ألف مقاتل في زمن عسرة وفي أيام شدّة الحرّ وطِيب الثمار والمسافة بعيدة فنزل صلى الله عليه وعلى آله وسلم في تبوك نحو عشرين يومًا ولم يكن قتال وكانت هذه الغزوة آخر غزوة غزاها النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – بنفسه] وبها تَمّت الغزوات التي باشَرَها الرسول بنفسه سبعًا وعشرين غزوة ثم رجع إلى المدينة وأقام فيها وكاتَبَ مَن حوله من زعماء الكفار يدعوهم إلى الإسلام وصارت الوفود تأتي إليه من كل وجه يُعلنون إسلامهم ويتعلّمون منه دينهم .
وهكذا – أيها الإخوة – كانت حياة نبيّنا – صلى الله عليه وسلم – حياة جهاد، حياة عمل، حياة عبادة، حياة دعوة إلى الله، حياة أمر بمعروف، حياة نهي عن منكر حياة دفاع عن الدين حتى توفّاه الله – عزَّ وجل – بعد أن أكمل به الدين وأتَمّ به النعمة على المؤمنين كما قال الله عزَّ وجل: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾[المائدة: 3]، وكانت وفاته صلى الله عليه وسلم في يوم الإثنين في الثاني عشر أو الثالث عشر من شهر ربيع الأول في السنة الحادية عشرة من الهجرة، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وأسأله تبارك وتعالى بِمَنّه وكرمه أن يلحقني وإياكم به في جنات النعيم، إنه على كل شيء قدير.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلّم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

محمد بن صالح العثيمين
مكتبة الخطب.
————————-
(1) أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه في كتاب [المناقب] باب: هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة [3613]، وأخرجه في باب: مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، [3562]، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه في كتاب [الفضائل] باب: كم أقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة والمدينة [4336] من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ت ط ع .
(2) أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه، من حديث أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- في كتاب [الإيمان] باب: الإسراء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات وفرض الصلوات [234] ت ط ع .
(3) أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه، من حديث أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- في كتاب [المناقب] باب: المعراج، وأخرجه الإمام -مسلم رحمه الله تعالى- في صحيحه، من حديث أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- في كتاب [الإيمان] باب: الإسراء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات وفرض الصلوات [238] ت ط ع .
(4) أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى، من حديث أبي محذورة -رضي الله تعالى عنه- في كتاب [الصلاة] باب: صفة الأذان [572] ت ط ع .
(5) أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه، من حديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- في كتاب [الإيمان] باب: قول الله عزَّ وجل: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾ [التوبة: 5]، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه، من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- في كتاب [الإيمان] باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة [33] ت ط ع .
(6) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى، من حديث ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- في صحيحه في كتاب [تفسير القرآن] باب: قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 83-85]، وأخرجه النسائي في سننه رحمه الله تعالى، من حديث ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- في كتاب [الصيام] باب: تأويل قوله عزَّ وجل: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [2277-2278]، وأخرجه أبو داوود في سننه، من حديث ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- في كتاب [الصيام] باب: نسخ قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ﴾ [1971-1972]، وفي الباب الذي بعده حديثان [2273-2274] ت ط ع .

(7) أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه في كتاب [الحج] باب: حجة النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما [2137] ت ط ع .

◆ فطوبي لمن عسّله الله ◆ 2024.

◆ فطوبي لمن عسّله الله ◆
.
عسّلكم الله جميعا ..
📜 قال رسول اللّه – صلى الله عليه وسلم – :
" إذا أحبَّ اللّه عبداً عسّلَه ! ".
قالوا : ما عسّلَه ؟ .
قال : " يفتح اللّه – عز وجل – له عملاً صالحاً قبل موته ثمّ يقبضه عليه ".
📌
{ رواه أحمد (١٧٨١٩) }.
📎قال العلامة الألباني رحمه الله :
وأمارة هذا التعسيل ، بأن يرضى عنه من حوله لما ثبت في زيادةٍ مرفوعةٍ للنّبيّ – صلى اللّه عليه وسلم – " .. حتى يرضى عنه من حوله
📌

" السلسلة الصحيحة (١١١٤) .
.
فطوبي لمن عسّله اللّه !
.

القعدة

كثيرا ما كان الشيخ الألباني رحمه الله يدعوا لمن صنع إليه معروفا بقوله : ( عسّلك الله ).
.
_____________
(مسند الإمام أحمد، حديث رقم: 17438، وصححه الألباني في صحيح الجامع).

فائدة , بارك الله فيك
بارك الله فيك أخي أمير.
نسأل الله طول العمر و حسن العمل و أن يرزقنا حسن الخاتمة.

موقع الباحث القرآني 2024.

هذا موقع الباحث القرآني

موقع ممتاز للبحث في كلمات وآيات القران الكريم

فيمكن البحث بتطابق الآية ويمكن البحث بجزء من الأية

وسوف يقوم بعرض نتائج البحث ومن ثم يمكن نسخ الآيات

الباحث القراني

وطريقة البحث كالأتي:

أولاً: أدخل كلمة البحث

سواء الأية كاملة أو جزء منها

مثال
البحث عن جزء من آية " الرحمن ودا "
القعدة
سوف تظهر لك نتيجة البحث كالتالي
القعدة
تضغط على الآية لعرضها كالتي في الصورة
القعدة
ومن ثم يمكن نسخ الآية وأسم السورة

لإدراجها في موضوعك حتى تحفظ أيات القرآن الكريم من التحريف
وحتى لا تتحمل وزر من يقرأها ويحفظها عنك بالخطاء

وبعد هذا لابد دائماً من التاكد عند كتابة الآيات القرانية أو نقلها.

والحمد الله رب العالمين

مشكورة

وانت مشكورة يا فراشة المنتدى التي عطرت المنتدى برحيقك الجذاب