- عباس ولد عمر
يقول الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيما﴾[النساء:17].
يقرأ هذه الآية كثير من النَّاس وهم يفهمُونها على غير وجهها، إذ يتبادر من ظاهرها أنَّ التَّوبة إنَّما تقبل ممَّن عمل الذَّنب وهو جاهل بتحريمه، ولا ريب أنَّ هذا الفَهم غير مراد؛ لأنَّه قد تقرَّر في الشَّريعة أنَّ المؤاخذة على الإثم إنَّما تكون بعد العلم بالتَّحريم.
وأمَّا المعنَى الصَّحيح للآية فهو ما فهمَه أصحاب النَّبيِّ صلى عليه وسلم وهُم أعلَم النَّاس بكتاب الرَّبِّ ـ عزَّ وجلَّ ـ وأفقههم لخطابه، فعَن أبي العالية أنَّه كان يحدِّث أنَّ أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم كانوا يقولون: «كلُّ ذنب أصابه عبد فهو بجهالة»(1).
وعن قتادة في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ﴾، قال: «اجتمع أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم فرأوا أنَّ كلَّ شيء عصي به الله تعالى فهو جهالة، عمدًا كان أو غير ذلك»(2).
وعن مجاهد في قوله: ﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ﴾ قال: «كلُّ من عصى ربَّه فهو جاهل حتَّى ينزع عن معصيته»(3).
وعلى هذا الفهم المأثور عن السَّلف يكون القيد في الآية ﴿بِجَهَالَةٍ﴾ صفة كاشفة وليس صفة مميِّزة، أي أنَّ الجهالة ملازمة لكلِّ من عصى ربَّه جلَّ وعلا، لأجل هذا قَرَنَها ربُّنا بعمل السُّوء في غير هذا الموضع من كتابه، كما في قوله: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيم﴾[الأنعام:54]، وقوله: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيم﴾[النحل:119]، ويشهد له قوله تعالى فيما ذكر عن يوسف: ﴿وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِين﴾[يوسف:33]، وما قاله لنوح عليه السلام: ﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِين﴾[هود:46]، ومن حديث أبي هريرة عن النَّبيِّ صلى عليه وسلم قوله: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ بِهِ والجَهْلَ فَلَيْسَ للهِ حَاجَة أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»(4)، فالجهل هنا ليس هو عدم العلم، وإنَّما هو العمل بخلاف ما يقتضيه العلم.
يقول ابن القيِّم رحمه الله: «الجهل نوعان: عدم العلم بالحقِّ النَّافع، وعدم العمل بموجبه ومقتضاه، فكلاهما جهل لغةً وعرفًا وشرعًا وحقيقةً»(5).
وأمَّا دلالة اللُّغة على ذلك فشاهده في قول عمرو ابن كلثوم:
وتوجيه ما نُقل عن السَّلف من أنَّ المعاصي كلَّها جهلٌ ما قاله ابن القيِّم رحمه الله: «إمَّا لأنَّه لم ينتفع به فنُزِّل منزلة الجاهل، وإمَّا لجهله بسوء ما تجني عواقب فعله».
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وسبب ذلك أنَّ العلم الحقيقي الرَّاسخ في القلب يمتنع أن يصدر معه ما يخالفه من قول أو فعل، فمتى صدر خلافه فلا بدَّ من غفلة القلب عنه أو ضعفه في القلب بمقاومة ما يعارضه، وتلك أحوال تناقض حقيقة العلم فيصير جهلاً بهذا الاعتبار»(6).
وقال في موضع آخر: «وإنَّما يحتمل ـ أي تسمية العصاة جهَّالاً ـ أمرين: أحدهما: أنَّهم عملوه وهم يجهلون المكروه فيه، والثَّاني: أنَّهم أقدموا على بصيرة وعلم بأنَّ عاقبته مكروهة، وآثروا العاجل على الآجل؛ فسمّوا جهَّالاً لإيثارهم القليل على الرَّاحة الكثيرة والعافية الدَّائمة… والمقصود هنا أنَّ كلَّ عاص لله فهو جاهل، وكلَّ خائف منه فهو عالم مطيع لله؛ وإنَّما يكون جاهلاً لنقص خوفه من الله، إذ لو تمَّ خوفه من الله لم يعص… وذلك لأنَّ تصوُّر المَخوف يوجب الهرب منه، وتصوُّر المحبوب يوجب طلبه، فإذا لم يهرب من هذا ولم يطلب هذا دلَّ على أنَّه لم يتصوَّره تصوُّرًا تامًّا»(7).
قال الحافظ ابن رجب وهو يتكلَّم عن فقه هذه الآية: «وعمل السُّوء إذا انفرد يدخل فيه جميع السَّيِّئات صغيرها وكبيرها، والمراد بالجهالة الإقدام على السُّوء وإن علم صاحبه أنَّه سوء، فإنَّ كلَّ من عصى الله فهو جاهل، وكلَّ من أطاعه فهو عالم، وبيانه من وجهين:
أحدهما: أنَّ من كان عالمًا بالله تعالى وعظمته وكبريائه وجلاله فإنَّه يهابه ويخشاه، فلا يقع منه مع استحضار ذلك عصيانه، كما قال بعضهم: لو تفكَّر النَّاس في عظمة الله تعالى ما عصوه، وقال آخر: كفى بخشية الله علمًا وكفى بالاغترار بالله جهلاً.
والثَّاني: أنَّ من آثر المعصية على الطَّاعة فإنَّما حمله على ذلك جهله وظنُّه أنَّها تنفعه عاجلاً باستعجال لذَّتها، وإن كان عنده إيمان فهو يرجو التَّخلُّص من سوء عاقبتها بالتَّوبة في آخر عمره، وهذا جهل محض؛ فإنَّه يتعجَّل الإثم والخزي ويفوته عزُّ التَّقوى وثوابها ولذَّة الطَّاعة، وقد يتمكَّن من التَّوبة بعد ذلك وقد يعاجله الموت بغتة، فهو كجائع أكل طعامًا مسمومًا لدفع جوعه الحاضر ورجَا أن يتخلَّص من ضرره بشرب الدّرياق(8) بعده، وهذا لا يفعله إلاَّ جاهل… فتبيَّن بهذا أنَّ إيثار المعصية على الطَّاعة إنَّما يحمل عليه الجهل، ولذلك كان كلُّ من عصى الله جاهلاً وكلُّ من أطاعه عالمًا، وكفى بخشية الله علمًا وبالاغترار به جهلاً»(9).
ويوضح ما نقل عن هؤلاء الأعلام أنَّ الأصل في العلم أن يطلب لأجل العمل، فلا تبرأ ذمَّة طالبه إلاَّ إذا أتبعه بالعمل به، فالعلم وسيلة والعمل ثمرة وغاية، ولهذا ورد في نصوص الشَّرع ذمُّ من تعلَّم العلم وترك العمل به، فعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى عليه وسلم قال: «لاَ تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ»(10).
وكان أبو الدَّرداء رضي الله عنه يقول: «إنَّما أخشى من ربِّي يوم القيامة أن يدعوني على رؤوس الخلائق فيقول لي: يا عويمر! فأقول: لبَّيك ربِّي، فيقول لي: ما عمِلتَ فيما علِمت»(11).
ولهذا كان صلى عليه وسلم يستعيذ بربِّه من عِلْم لا ينفع، عن زيد ابن أرقم رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى عليه وسلم كان يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعْ، وَمِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعْ، وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعْ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لاَ يُسْتَجَابُ لَهَا»(12).
والعلم الَّذي لا ينفع هو الَّذي لا يعمل به صاحبه؛ لأنَّه تعلَّم ما يكون عليه حجَّة عند ربِّه، قال الحسن البصري: «العلم علمان: فعلم في القلب؛ فذلك العلم النَّافع، وعلم على اللِّسان؛ فذلك حجَّة الله على ابن آدم»(13).
وما ورد في نصوص الكتاب والسُّنَّة من مدح العلم والثَّناء على أهله إنَّما يتنزَّل على العاملين به، وأمَّا من لم يكن كذلك فهذا لا يستحقُّ أن يوصف بالعلم حقيقة، قال فضيل بن عياض: «لا يزال العالم جاهلاً بما علم حتَّى يعمل به؛ فإذا عمل به كان عالمًا»(14).
وعن عمران المنقري قال: قلت للحسن يومًا في شيء قاله: يا أبا سعيد! ليس هكذا يقول الفقهاء! فقال: «ويحك! ورأيت أنت فقيهًا قط؟! إنَّما الفقيه الزَّاهد في الدُّنيا، الرَّاغب في الآخرة، البصير بأمر دينه، المداوم على عبادة ربِّه عزَّ وجلَّ»(15).
وعن مسعر أنَّ سعد بن إبراهيم قيل له: من أفقه أهل المدينة؟ قال: «أتقاهم لربِّه»(16).
ولمَّا كان العلم مقتضيًا للعمل مستلزمًا له بيَّن لنا ربُّنا في كتابه أنَّ أكثر النَّاس خشية له إنَّما هم العلماء، كما في قوله: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾[فاطر:28].
قال ابن القيِّم رحمه الله: «وقوله: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾ يقتضي الحصر من الطَّرفين: أن لا يخشاه إلاَّ العلماء، ولا يكون عالمًا إلاَّ من يخشاه، فلا يخشاه إلاَّ عالم، وما من عالم إلاَّ وهو يخشاه، فإذا انتفى العلم انتفت الخشية، وإذا انتفت الخشية دلت على انتفاء العلم»(17).
فدلَّ هذا على أنَّ العلم المحمود لا يتوصَّل إليه العبد بحفظ النُّصوص، واستحضار النُّقول، والإحاطة بالمذاهب، والعكوف على المكاتب، ولو جمع إلى ذلك فصاحة اللِّسان، وبراعة البيان فحسب، حتَّى يؤدِّي حقَّ الله فيه بأن يكون عاملاً بمُقتضاه، قال ابن مسعود رضي الله عنه: «ليس العلم بكثرة الرِّواية إنَّما العلم الخشية»(18).
وقال أيضًا: «كفى بخشية الله علمًا وبالاغترار بالله جهلاً».
وعن مجاهد قال: «إنَّما الفقيه من يخاف الله».
عن مالك بن مِغوَل قال: قال رجل للشَّعبي: أفتني أيُّها العالم! فقال: «العالم من يخاف الله».
وسُئل الإمام أحمد عن معروف وقيل له: هل كان معه علم؟ فقال: «كان معه أصل العلم، خشية الله عزَّ وجلَّ».
قال الحسن البصري: «كان الرَّجل إذا طلب العلم لم يلبث أن يرى ذلك في بصره وتخشُّعه ولسانه ويده وصلاته وزهده»(19).
فالعلم إذن هو الَّذي يورِّث العبد خشية ربِّه، فيدفعه إلى المسارعة إلى مرضاته، ويحجزه عن انتهاك حرماته، فمتى تخلَّفت هذه النَّتيجة، وفقدت تلكم الثَّمرة دلَّ على أنَّه بوصف الجهل أحرى، وأنَّه قد ضرب من الغواية بالسَّهم الأوفى، وبيان ذلك أنَّ العلم يحمل صاحبه على مراقبة ربِّه والاستحياء من نظره، قال تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾[الحديد:4]، وقال: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور﴾[غافر:19]، واجتراح العبد للمعصية لا يحصل منه إلاَّ مع غياب هذه الحقائق عن القلب، فيكون العبد حينَها في حال من الجاهليَّة ولا بدَّ.
قال ابن القيِّم رحمه الله: «ويدلُّ على صحَّة هذا أنَّ مع كمال العلم لا تصدر المعصية من العبد، فإنَّه لو رأى صبيًّا يتطلَّع عليه من كوَّة لم تتحرَّك جوارحه لمواقعة الفاحشة، فكيف يقع منه حال كمال العلم بنظر الله إليه ورؤيته له، وعقابه على الذَّنب وتحريمه له وسوء عاقبته، فلا بدَّ من غفلة القلب على هذا العلم وغيبته عنه، فحينئذ يكون وقوعه في المعصية صادرًا عن جهل وغفلة ونسيان مضادّ للعلم، والذَّنب محفوف بجهلين: جهل بحقيقة الأسباب الصَّارفة عنه، وجهل بحقيقة المفسدة المترتّبة عليه، وكلُّ واحد من الجهلين تحته جهالات كثيرة، فما عُصي اللهُ إلاَّ بالجهل، وما أطيع إلاَّ بالعلم»(20).
وللحافظ ابن رجب جزء في الكلام على قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾[فاطر:28] بسط فيه هذه المسألة الجليلة وبيَّن وجوه التَّلازم بين العلم والخشية، والجهل والمعصية، وفيه أيضًا توضيح لأنواع الجهالات الَّتي يحتفُّ بها الذَّنب والَّتي وردت الإشارة إليها في كلام ابن القيِّم قريبًا(21).
وخلاصة القول إنَّه لا سعادةَ للعبد في دنياه ولا نجاةَ له في آخرته إلاَّ بالعلم والعمل، والمتأمِّل لكتاب الله سبحانه، يتجلَّى له اقترانهما وعدم انفكاكهما، وذلك في مواضع كثيرة؛ منها قوله جلَّ وعلا: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ﴾[التوبة:33]، فالهُدى هو العلم النَّافع، ودين الحقِّ هو العَمل الصَّالح كما قال العلماء، ومنها: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَاب﴾[الزُّمَر:9]، فالقانت بين يدي ربِّه خوفًا من عقابه وطمعًا في رحمته وثوابه هو العالم بربِّه حقيقة؛ لأنَّه سبحانه ذكر في أوَّل الآية الاجتهاد في الطَّاعة وختمها بمدح أهل العلم ليبيِّن لعباده أنَّ العلم النَّافع متى وجد في القلب أورث صاحبه العمل الصَّالح، ومن الآيات قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَار﴾[ص:45].
قال ابن تيمية رحمه الله: «فوصفهم بالقوَّة في العمل والبصيرة في العلم»(22).
والعبد فيه قوَّتان: قوَّة علميَّة وقوَّة عمليَّة، فمتى تخلَّفت إحدى القوَّتين وقع الفساد في دين المرء، فإنَّه إذا تعبد لله بغير علم كان مصيره إلى الضَّلال، وإن علم ولم يعمل كانت نهايته إلى الغواية والانحلال، ولهذا نزَّه الله تعالى نبيَّه عن هذين الوصفين المترتّبين على فساد القوَّة العلميَّة أو العمليَّة فقال: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾[النجم:2].
قال ابن تيمية رحمه الله: «فوصفه بأنَّه ليس بضالٍّ وهو الجاهل، ولا غاو وهو الظَّالم، فإنَّ صلاح العبد في أن يعلم الحقّ ويعمل به، فمن لم يعلم الحقَّ فهو ضالٌّ عنه، ومن علمه فخالفه واتَّبع هواه فهو غاو، ومن علمه وعمل به كان من أولي الأيدي عملاً ومن أولي الأبصار علمًا، وهو الصِّراط المستقيم الَّذي أمرنا الله سبحانه في كلِّ صلاة أن نقول: ﴿اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيم * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّين﴾[الفاتحة:6-7]، فالمغضوب عليهم: الَّذين يعرفون الحقَّ ولا يتَّبعونه كاليهود، والضَّالُّون: الَّذين يعملون أعمال القلوب والجوارح بلا علم كالنَّصارى»(23).
وقد قال سفيان بن عيينة: «من ضلَّ من علمائنا ففيه شبه باليهود، ومن ضلَّ من عبَّادنا ففيه شبه بالنَّصارى»، فالعصمة إذن لا تتحقَّق إلاَّ بترك التَّشبُّه بالمغضوب عليهم والضَّالِّين، ولزوم الصِّراط المستقيم الَّذي أوجب الرَّبّ على عباده اتِّباعه أجمعين، فبالعلم يعرف الصِّراط المستقيم، وبالعمل يتمُّ السَّير فيه، يقول ابن تيمية رحمه الله كذلك: «فإنَّ العلم قائد والعمل سائق، والنَّفس حرون(24) فإن ونى(25) قائدها لم تستقم لسائقها، وإن ونى سائقها لم تستقم لقائدها، فإذا ضعف العلم حار السَّالك ولم يدر أين يسلك، فغايته أن يستطرح للقدر، وإذا ترك العمل حاد(26) السَّالك عن الطَّريق فسلك غيره مع علمه أنَّه تركه، فهذا حائر لا يدري أين يسلك مع كثرة سيره، وهذا حائد(27) عن الطَّريق زائغ عنه مع علمه به»(28).
وخير ما نختم به دعاء من أدعية النَّبيِّ صلى عليه وسلم فيه دلالة لما تقدَّم تقريره من أنَّ السَّعادة والنَّجاة والفوز والفلاح منوط بتحصيل العلم النَّافع والعمل الصَّالح، وهو قوله: «اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، وَزِدْنِي عِلْمًا»(29).
(1) رواه الطَّبري في «جامع البيان» (8847) وابن المنذر في «التَّفسير»، ورواه أيضًا عبد ابن حميد في التَّفسير كما في «الدُّرّ المنثور».
(2) رواه عبد الرَّزاق في «التَّفسير» ومن طريقه الطَّبري (8848).
(3) رواه ابن أبي حاتم والطَّبري وابن المنذر والبيهقي في «الشُّعب»، ورواه أيضًا عبد ابن حميد في «التَّفسير» كما في «الدُّرّ المنثور».
(4) رواه البخاري (6057).
(5) «مدارج السَّالكين» (1/467).
(6) «اقتضاء الصِّراط المستقيم» (1/257).
(7) «مجموع الفتاوى» (7/22، 23).
(8) الدّرياق ويقال كذلك التّرياق: دواء السُّموم.
(9) «لطائف المعارف» ((445، 446).
(10) رواه التِّرمذي (2416) وغيره.
(11) رواه البيهقي في «الشُّعب» (1711)، وصحَّحه الألباني في «صحيح التَّرغيب» (129).
(12) رواه مسلم (2722).
(13) رواه الدَّارمي في «السُّنن» (364)، ورواه ابن أبي شيبة (34361) عنه مرفوعًا ولم يصحَّ. قال الألباني في «الضَّعيفة» (8/415) عن الموقوف بعد أن ضعف المرفوع لعلَّه أصح.
(14) رواه الخطيب في «اقتضاء العلم العمل» (43).
(15) رواه الدَّارمي (294).
(16) رواه الدَّارمي (295).
(17) «شفاء العليل» (ص172).
(18) رواه أحمد في «الزُّهد» (860).
(19) رواه الدارمي (385).
(20) «مفتاح دار السَّعادة» (1/249 ـ 250).
(21) انظره برمَّته ضمن «مجموع رسائل ابن رجب» (1/335، 344).
(22) «مجموع الفتاوى» (7/540).
(23) «جامع المسائل» (3/85).
(24) يقال فرس حرون أي: لا ينقاد.
(25) ونَى: ضَعُف وفَتر، ومنه قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي﴾[طه:42]، والَّذي في المطبوع وني بالياء في هذا الموضع والَّذي بعده.
(26) في الأصل حار، ولعلَّ الصَّواب ما أثبته.
(27) في الأصل حائر.
(28) «مجموع الفتاوى» (10/544).
(29) رواه التِّرمذي (3599)، وابن ماجه (251)، وصحَّحه الألباني.
* منقول من مجلة الإصلاح -العدد 33-
المصدر ..موقع راية الاصلاح
جزاك الله عنا كل الخير
كنت اتمنى ان يكون الموضوع من جزأين مجرد رأي
اقبل مروووري