اشتغالهم بالنعمة عن شكرها ، ورغبتهم في العلم وتركهم العمل، والمسارعة إلى الذنب وتأخير التوبة، والاغترار بصحبة الصالحين وترك الاقتداء بفعالهم، وإدبار الدنيا عنهم وهم يتبعونها، وإقبال الآخرة عليهم وهم معرضون عنها.
قلت: وأصل ذلك عدم الرغبة والرهبة ، وأصله ضعف اليقين ، وأصله ضعف البصيرة ، وأصله مهانة النفس ودناءتها واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير. وإلا فلو كانت النفس شريفة كبيرة لم ترض بالدون. فأصل الخير كله بتوفيق الله ومشيئته وشرف النفس ونبلها وكبرها. «وقد خاب من دساها» سورة الشمس ، الآية رقم 9-10، أي أفلح من كبرها وكثرها ونماها بطاعة الله، وخاب من صغرها وحقرها بمعاصي الله.
فالنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار. فالنفس الشريفة العلية لا ترضى بالظلم ولا بالفواحش ولا بالسرقة والخيانة؛ لأنها أكبر من ذلك وأجلّ ، والنفس المهنية الحقيرة الخسيسة بالضد من ذلك. فكل نفس تميل إلى ما يناسبها و يشاكلها ، وهذا معنى قوله تعالى: «قل كل يعمل على شاكلته» الإسراء : 84، أي على ما يشاكله ويناسبه فهو يعمل على طريقته التي تناسب أخلاقه وطبيعته، وكل إنسان يجري على طريقته ومذهبه وعاداته التي ألفها وجبل عليها . فالفاجر يعمل بما يشبه طريقته من مقابلة النعم بالمعاصي والإعراض عن المنعم والمؤمن يعمل بما يشاكله من شكر المنعم ومحبته والثناء عليه والتودد إليه والحياء منه والمراقبة له وتعظيمه وإجلاله.
الفوائد_الإمام شمس الدين أبي عبد الله بن قيم الجوزية