حينما نتدبر القرآن ونعيش في رحابه 2024.

في شهر رمضان يزداد إقبال المسلمين على القرآن، فتراهم يكثرون من تلاوته، ويطيلون الاستماع لآياته الكريمة يتلوها قراء مشهورون ذوو أصوات عذبة ندية، ذلك المسلك ينمُّ عن مدى أهمية القرآن في حياة المسلمين، ومدى تعلقهم به، وخصوصاً في شهر رمضان، إذ هو الشهر" الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ".
فكما أن الله خص شهر رمضان بإنزال القرآن فيه فقد ورد أن الكتب الإلهية أنزلت فيه كذلك، ففي الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أُنزلت صحف إبراهيم عليه السلام في أول ليلة من رمضان، وأُنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأُنزل الفرقان لأربع وعشرين خلت من رمضان".

فالقرآن كتاب هداية ودلالة على ما فيه خير العباد ونفعهم في الدنيا والآخرة، وفيه الأدلة والبراهين الدالة على مسائل العقيدة الكبرى، كالألوهية والنبوة واليوم الآخر، وفي هذه الآيات مدح للقرآن – كما يقول ابن كثير – الذي أنزله الله هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدقه واتبعه"وَبَيِّنَـ?تٍ" أي دلائل وحججاً بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبرها دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال، والرشد المخالف للغي، ومفرقاً بين الحق والباطل والحلال والحرام.

يقول تعالى واصفاً كتابه:" يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم منَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ"(المائدة:15-16).

وقال تعالى:" وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ"(الشورى:52).

لقد تضافرت النصوص المرغبة في الاشتغال بالقرآن، تلاوة وحفظاً وتدبراً وتفهماً، ففي الصحيحين – وغيرها – عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة (تمرة طيبة الرائحة والمذاق)، ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة، ريحها طيب وطعهما مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر".

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار".

عن النواس بن سمعان قال سمعت رسول الله يقول يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران، وضرب لهما رسول الله ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال: كأنهما غمامتان، أو ظُلتان سوداوان بينهما شَرْقٌ (ضياء ونور)، أو كأنهما حِزْقان من طير صواف (جمع صافة وهي طيور تبسط أجنحتها في الهواء) تحاجان عن صاحبهما".

وقد أمر الله تعالى رسوله بقراءة القرآن على تمهل لأن ذلك يكون عوناً على فهم القرآن وتدبره، يقول تعالى:"ورتل القرآن ترتيلاً"(المزمل:4)، وكذلك كان يقرأ صلوات الله وسلامه عليه – كما يقول ابن كثير في تفسيره – قالت عائشة رضي الله عنها كان يقرأ السورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها، وفي صحيح البخاري عن أنس أنه سئل عن قراءة رسول الله فقال: كانت مداً ثم قرأ "بسم الله الرحمن الرحيم" يمد بسم الله ويمد الرحمن ويمد الرحيم، وقال ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة رضي الله عنها أنها سئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان يقطع قراءته آية آية وعن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقال لقارئ القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها"

ينقل ابن القيم في "زاد المعاد" عن بعض السلف قولهم "نزل القرآن ليُِعْمل به، فاتخذوا تلاوته عملاً، ولهذا كان أهل القرآن هم العالمون به، والعاملون بما فيه، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب، وأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل بما فيه، فليس من أهله وإن أقام حروفه إقامة السهم.

قال شعبة – كما يورده ابن القيم في الزاد -: حدثنا أبو جمرة قال: قلت لابن عباس: إني رجل سريعُ القراءة، وربما قرأت القرآن في ليلة مرة أو مرتين، فقال ابن عباس: لأن اقرأ سورة واحدة أعجبُ إليَّ من أن أفعل ذلك الذي تفعل، فإن كنت فاعلاً ولا بد، فاقرأ قراءة تُسمعُ أُذُنيك، ويعيها قلبك.

ثمة فرق كبير بين من يقرأ القرآن الكريم قراءة سريعة (يهذّه هذّاً)، وبين من يقرأه متمهلاً متدبراً متفكراً، ذلك أن ما فيه من البينات والهدى والفرقان لا يُستخرج بمثل ذلك الهذّ، بل بدوام قراءته بتدبر وطول نظر والعيش في رحابه على مدى ساعات العمر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.