أبـُو الفـتـح الشـهـرسـتانِي والإباضيـَّة 2024.

اشتهر أبو الفتح محمَّد بن عبد الكريم الشهرستانيُّ في النصف الأوَّل من القرن السادس الهجريِّ، وقد ذاع صيته بين كتـَّاب المقالات في العقائد. ويعتبر كتابه (الملل والنحل) من أهمِّ المراجع في هذه المواضيع وكثير من كـتَّاب اليوم يعتمدون عليه كمصدر محقَّق ثابت لا يناقش. ويهمُّنا أن نرافق هذا المؤلِّف الكبير بعض الوقت لنستجلي موقفه، ونرى هل استطاع أن يتجنـَّب الأخطاء التي وقع فيـها من سبقوه؟
يقول أبو الفتح في كتابه (الملل والنحل) الجزء الأوَّل من الطبعة الأولى مكتبة الحسين التجاريَّة ص 4 ما يلي:
«ومن المعلوم الذي لا مراء فيه، ليس كلّ من تميـَّز عن غيره بمقالة ما في مسألة ما عُدَّ صاحب مقالة».
ويقول ص 6 ما يلي:
«وشرطي على نفسي أن أورد مذهب كلّ فرقة على ما وجدته في كتبهم من غير تعصُّب لهم، ولا كسر عليهم، دون أن أبيـِّن صحيحه من فاسده، وأعيـِّن حقَّه من باطله».
فهل وفَّى أبو الفتح لما خطَّطه لوضع كتابه، وشرطه على نفسه من استقاء الآراء والعقائد من مصادر أصحابها؟
يؤسفني أن أقول: إنـَّه لم يفعل ذلك، وإنـَّه سلك نفس المسلك الذي مرَّ به سابقوه، فهو يبحث عن أسماء الرجال وينسب إليهم الأقوال ليبلغ بعدد الفرق إلى اثنين وسبعين فرقة يدفعها جميعـًا ــ محسنها ومسيئها ــ إلى النار، ويستخلص منها الثالثة والسبعين فيقودها إلى الجـنَّة، وقد اعتمد في ذلك كلّه على من سبقه من أصحاب الكتب التي ناقشنا بعضها وإن كان قد خالفهم في جزئيات يسيرة ربـَّما عرضنا لبعضها في نهاية هذا الفصل.
وَعَد أبو الفتح أنـَّه سيذكر الفرق بتجرُّد، وأنـَّه لا يصحِّح ولا ينتقد، ولا يصوِّب ولا يخطِّئ، ولا يميِّز بين الصحيح والفاسد، والحقِّ والباطل، وَلَكِـنَّهُ ناقض نفسه من الخطوة الأولى، ومن مقدِّمة الكتاب جرَّد سيفه وجعل ينظِّم صفوف الفرق ويصفِّفها في طوابير طويلة تمتدُّ جذورها في أعماق التاريخ من عصره إلى عهد إبليس متَّخذة في كلّ عصر مظهرًا مناسبـًا من موقف إبليس إلى موقف المشركين المنافقين إلى موقف الفرق الضالَّة، ويحاول أن يربط العلائق الوثيقة بين هذه الفرق الضالَّة وأسلافها في نظره من المنافقين أو المشركين أو الشياطين، وهو يرجع جميع الفرق الضالَّة في نظره إلى أصول أربعة. يقول في ص 10 من كتابه ما يلي: «فللعين الأوَّل لـمَّا أن حكَّم العقل على من لا يحكم عليه العقل لزمه أن يجري عليه حكم الخالق في الخلق أو حكم الخلق في الخالق، والأوَّل غلوٌّ والثاني تقصير، فثار من الشبهة الأولى مذاهب الحلولية والتناسخيـَّة والمشبِّهة والغلاة من الروافض حيث غلوا في حقِّ شخص من الأشخاص حتَّى وصفوه بصفات الجلال. وثار من الشبهة الثانية مذاهب القدريـَّة والجبريـَّة والمجسِّمة حيث قصَّروا وصفه تعالى بصفات المخلوقين، فالمعتزلة مشبِّهة الأفعال والمشـبِّهة حلوليـَّة الصفات وكلُّ واحد منهم أعور بأيِّ عينيه شاء، فإنَّ من قال إِنـَّمَا يحسن منه ما يحسن منـَّا، ويقبح منه ما يقبح منـَّا، فقد شبَّه الخالق بالخلق. ومن قال: يوصف البارئ تعالى بما يوصف به الخلق، أو يوصف الخلق بما يوصف به البارئ تعالى عزَّ اسمه فقد اعتزل عن الحقِّ.
وسِنْخ القدريـَّة طلب العلَّة في كلّ شيء وذلك من سِنْخ اللعين الأوَّل إذ طلب العلَّة في الخلق أولاً والحكمة في التكليف ثانيـًا، والفائدة في تكليف السجود لآدم عليه السلام ثالثـًا. وعنه نشأ مذهب (الخوارج) إذ لا فرق بين قولهم (لا حكم إِلاَّ الله)( )، ولا يحكَّم الرجال، وبين قوله: لا أسجد إِلاَّ لك، {آسجد لبشرٍ خلقته من صلصال} وبالجملة «كلا طرفي قصد الأمور ذميم». (فالمعتزلة) غلوا في التوحيد بزعمهم حتَّى وصلوا إلى التعطيل بنفي الصفات (والمشبـِّهة) قصَّروا حتَّى وصفوا الخالق بصفات الأجسام (والروافض) غلوا في النبوَّة والإمامة حتَّى وصلوا إلى الحلول. (والخوارج) قصَّروا حيث نفوا تحكيم الرجال، وأنت ترى أنَّ هذه الشبهات كلُّها ناشئة من شبهات اللعين الأوَّل. وتلك في الأوَّل مصدرها، وهذه في الآخر مظهرها».
وهكذا ترى من أوَّل الأمر أنـَّه حاول أن يربط بين إبليس وأصول الفرق بتلك الخيوط الضعيفة التي توهَّم صلاحيتها للربط، فهو قد حكم عليها مسبقـًا بالضلال والزيغ واتـِّباع الهوى، وإنـَّما يوردها ليحدِّد بها الإحصائية ويلتمس لها المبرِّرات التي تجعلها ضمن الموكب الضخم الذي يدفعه كتـَّاب المقالات إلى الهاوية.
وفيما يَتَعَلَّق بوعده أَلاَّ يكتب عن أيـَّة فرقة إِلاَّ بناء على ما يجده في كتب علماء تلك الفرقة فيؤسفني أن أقول: إنَّ الإمام الشهرستانيَّ قد أخلَّ بوعده ولم يوف به، ولم يعمل بالشرط الذي شرطه على نفسه، هذا على الأقلِّ بالنسبة إلى الإباضيـَّة، ولست أدري موقفه من كتب الفرق الأخرى، وإن كنت أحسب أنـَّه لا يختلف.
والحقيقة أنَّ هذا الموقف من نسبة الآراء والعقائد إلى مصادر أصحابها موقف خطير. فالكاتب حين يعد قرَّاءه بأنـَّه يعتمد في نسبة الأقوال على مصادر أصحابها، يضع الثقة به في الميزان، فإن وفَى كان أهلاً للثقة والتصديق في كلّ شيء، وإن أخلَّ بوعده، كان موضعا للشكِّ يجري البحث من ورائه لتحقيق ما يلي:
قال أبو الفتح الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل) الجزء الأوَّل ص 212 ما يلي:
– هذه الكلمة مقتبسة من القرآن الكريم في قوله تعالى: {إنِ الحكمُ إِلاَّ لله} (سورة الأنعام وفي سورة يوسف). كلُّ ما فعله من قال هذه الكلمة أنـَّه أتى بـ«ما» [كذا لعلَّ الصواب: لا] النافية بدلاً من «إن» النافية.
«الإباضيـَّة أصحاب عبد الله بن إباض الذي خرج في أيـَّام مروان بن محمَّد فوجَّه إليه عبد الملك بن محمَّد بن عطية فقاتله بثبالة، وقيل إنَّ عبد الله بن يحيى الإبـَاضِـيَّ كان رفيقـًا له في جميع أحواله وأقواله.

وقال (أي ابن إباض): إنَّ مخالفينا من أهل القبلة كفَّار غير مشركين، ومناكحتهم جائزة، وموارثتهم حلال، وغنيمة أموالهم من السلاح والكراع عند الحرب حلال، وما سواه حرام، وحرام قتلهم وسبيهم في السر غيلة، إلاَّ بعد نصب القتال، وإقامة الحجَّة.
وقالوا: إنَّ دار مخالفيهم من أهل الإسلام دار توحيد إِلاَّ معسكر السلطان فإنـَّه دار بغي، وأجازوا شهادة مخالفيهم على أوليائهم، وقالوا في مرتكبي الكبائر: إنـَّهم موحِّدون لا مؤمنون».
ثُمَّ ذكر عدَّة مقالات، قال إنَّ الكعبيَّ حكاها عنهم ويهمُّني أن يعرف القارئ الكريم الملاحظات الآتية عن مرافقتنا لأبي الفتح الشهرستانيِّ:
1 – ذكر أنَّ عبد الله بن إباض خرج أيـَّام مروان بن محمَّد وقتل بثبالة، وهذا خطأ تسرَّب إلى أبي الفتح وإلى جملة مِمـَّن كتب عن الموضوع، لأنَّ عبد الله بن إباض لم يعش إلى زمن مروان وإنـَّما توفِّي في أواخر أيـَّام عبد الملك، ولعلَّ الذين ذكروا هذا القول اشتبه عليهم بأحد الرجلين: المختار بن عوف، أو بلج بن عقبة، من أصحاب عبد الله بن يحيى طالب الحقِّ، وهم جميعـًا من الإباضيـَّة.
2 – والمقالات التي نسبها إلى الإباضيـَّة هي بعض ما نسبه إليه من تحدَّثنا عنهم سابقـًا وسوف نعرض لها في بعض فصول هذا الكتاب ونوضِّح فيها ما كان منها موافقـًا لمقالات الإباضيـَّة، وما كان مخالفـًا لها، وما صيغ بغموض وإبهام يحتاج إلى شيء من الإيضاح والبيان.
3 – ذكر جملة من المقالات المنسوبة إلى الإباضيـَّة، ونصَّ على أنَّ الكعبيَّ حكاها عنهم. وهذا موقف سليم من أبي الفتح حين تخلَّص من عهدة تلك الأقوال ونسبها إلى من حكاها بما فيها من صدق أو غيره.
4 – حسب الحفصيـَّة والحارثـيَّة واليزيديـَّة فرقـًا مستقلَّة ولم يدخلها في الإباضيـَّة وهو موقف فيه تمحيص وتحقيق خالف فيه السابقين مِمـَّن كتبوا في الموضوع.
5 – لم يذكر قصَّة ثعلبة ولا قصَّة بيع الأمة وما بُني على ذلك، فسلم كتابه من تلك النزعات الفارغة، والأباطيل الجوفاء.
ويتـَّضح من هذا أنَّ أبا الفتح وإن سلك طريق الآخرين في تقسيم الفرق والحكم عليها إِلاَّ أنـَّه كان أكثر دقَّة واجتهادًا وتحرِّيــًا من سابقيه، وخالفهم في عدد من المواقف تقدَّر له، ولا نأخذ عليه شيـئًا غير ما ذكرناه سابقًا في تورُّطه كما تورَّط غيره في حكمه على مجموعة من الفرق بالضلال مسبقـًا مع شرطه على نفسه أنـَّه سيقف من الجميع موقفـًا سلبيـًّا لا يصوِّب ولا يخطِّئ، ثُمَّ وعده بالرجوع إلى مصادر الفرق في نسبة الأقوال وعدم وفائه بذلك. وبالنسبة إلى الإباضيـَّة بدلاً من أن يرجع إلى علمائهم أو كتبهم التجأ إلى الكعبيِّ وغيره مِمـَّن لم يذكره فوقع في أخطاء كان حريا ألاَّ يقع فيها. أمـَّا خطؤه في تاريخ عبد الله بن إباض فهذا خطأ قد لا يسلم من مثله الكثير من الكتـَّاب.
وعلى كلّ حال فأبو الفتح عندما كتب عن الإباضيـَّة لم يأخذ مقالاتهم من مصادرهم وإنـَّما أخذها من مصادر غيرهم ولكن ذكره لتلك المقالات كان يتـَّسم بدقَّة الملاحظة والمعرفة لآراء الفرق، ولذلك فقد نسب ما قيل له عن الإباضيـَّة إلى روَّاته، وجعل بعض من كان يحسب على الإباضيـَّة وليس منهم فرقـًا مستقلَّة وأغفل قصَّة النزاع على الأمة والطفلة، وهذا وحده يعتبر منه نقدًا وردًّا على كتـَّاب المقالات السابقين، وهي خطوة تستحقُّ الثناء والتقدير.

شكرا على المعلومات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.